تعويم الليرة» ينذر بانهيار العملة الوطنية.. الليرة «غطاء» الاقتصاد.. وأزمتها تعكس خللاً ببنية الاقتصاد السوري»
بعدما أعلن حاكم مصرف سورية المركزي أديب مياله، بصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، أن «سورية تخطط لتعويم موجه لسعر صرف عملتها»، ارتفعت مخاوف الكثير من السوريين عن تأثير هذه الخطوة على ارتفاع أسعار الصرف، متسائلين عن مدى ضرورة اتخاذ هذه الخطوة من قبل الحاكم في التوقيت الحالي؟! وهل يعني هذا القرار أن الليرة السورية باتت على حافة التعويم فعلاً؟! وما لذلك من تأثير على تراجع القدرة الشرائية لليرة؟! وهذه كلها أسئلة تشغل بال السوريين غير العارفين بتبعات هذا القرار الحالي!
تأثيرات موجعة للسوريين
التعويم من الناحية النظرية، يعني تحرير أسعار صرف النقد الأجنبي، حيث ستحدد آليات السوق سعر الصرف، وسيتم تحديد سعر صرف الدولار وفقاً لآليات العرض والطلب من دون تدخل من أي جهة، بدلاً من التدخل الذي كان يمارسه مصرف سورية المركزي، وهذا سيتيح للبنوك تحديد أسعار الصرف الخاصة بها بصورة مستقلة، فهل هذا التعويم سيحافظ على استقرار سعر الليرة أمام سلة العملات الأجنبية؟! أو سيؤدي لإرجاعها إلى وضعها الطبيعي! لأن لتذبذب أسعار الصرف تأثيراً على القدرة الشرائية للمواطن، وعلى قيمة العملة، وعلى تراجع القدرة الشرائية لليرة السورية؟!
فالتراجع الحاصل في قيمة الليرة السورية لا يمكن لأحد إنكاره، وهو الذي انعكس ارتفاعاً على تكلفة إنتاج السلع، وسيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات في السوق المحلية، وهذا سيخفّض القيمة الشرائية لليرة السورية، وبالتالي، سيؤدي لتراجع مستوى معيشة أصحاب الدخول المحدودة بشكل خاص، وإلى ازدياد ظاهرة المضاربة بالقطع الأجنبي، وهذا ينبئ بانتشار ظاهرة دولرة الاقتصاد، والناتج عن تخلي بعض السوريين عن الليرة السورية التي لم تعد تشعرهم بالأمان، وبالتالي، قرروا التوجه نحو التعامل بالدولار.
التماهي مع المؤسسات الدولية
يتماهى قرار حاكم المصرف المركزي مع أمنيات المؤسسات الدولية، فتحرير سعر الصرف الذي أقره حاكم المصرف في ظل الظروف الاقتصادية السيئة التي يعيشها الاقتصاد السوري، يعد مطلباً دائماً لكل المؤسسات الدولية (صندوق النقد، والبنك الدولي)، وهذا جزء من سياسة هاتين المؤسستين الدوليتين الداعية لتحرير الاقتصاد بشكل مطلق، والانفتاح الاقتصادي دون قيود، وهذا يعني أن جزءاً من القرار جاء تجاوباً مع متطلبات المؤسسات الدولية..
عن أي «تعويم موجه» يتحدث الحاكم؟!
إلا أن الأيام القليلة الماضية من إجراء المصرف المركزي، لم تعد الليرة السورية إلى حالتها الطبيعية، ولن نحكم على الإجراء الحالي للحاكم خلال هذين اليومين، إلا أنه من حقنا التساؤل: ماذا يقصد حاكم المصرف «بالتعويم الموجه»، وهل استخدم هذا المصطلح مسبقاً في أية دولة غير سورية، وهذا الاستخدام برأينا، لا يختلف كثيراً عن «اقتصاد السوق الاجتماعي» الذي لم يرَ منه السوريون إلا الجانب الوحشي، بغياب شبكات الحماية الاجتماعية، وفلتان الأسعار بعد تحرير %85 من السلع في السوق المحلية، وغياب أي دور للدولة، فلا يوجد في الاقتصاد شيء يسمى التعويم الموجه لليرة، ولكن يبدو أن لكل شيء في سورية خصوصية ، فتعويم العملة، يخضع لآليات اقتصاد السوق، بمعنى خضوعها لقانون العرض والطلب، وفي سورية نعاني من عرض اكبر بكثير من الطلب، وفي هذه الحالة ستنهار العملة الوطنية، إلا إذا أثبت لنا حاكم المصرف المركزي أن الطلب على الليرة في السوق السوداء وهمي.. كما يدعي، وهذا مرهون بعدم تراجع سعر صرف الليرة السورية مقابل سلة العملات الأجنبية مستقبلاً بتأثير القرار، وعودة الليرة إلى وضعها السابق كما كانت في شهر أيلول من عام 2011..
فعن أي «تعويم موجه» يتحدث الحاكم؟! فلو كان للمركزي أدوات حقيقية يستطيع من خلالها توجيه العملة، والحفاظ على استقرارها، فلماذا لم يستخدمها قبل فقدان العملة المحلية %18 من قيمتها خلال الشهور الثلاثة الأخيرة من عام 2011؟! أم أنهم يريدون مجدداً اللعب على المواطن السوري بالمصطلحات الرنانة التي لا تأتي إلا بالخراب على الاقتصاد الوطني، وبالويلات على المواطن السوري؟!
الأزمة اقتصادية وليست نقدية
المشكلة التي تعيشها الليرة السورية اليوم، ليست نقدية كما يحاول البعض إيهامنا بها، فالأزمة اقتصادية، فالليرة غطاء الاقتصاد، وانعكاس له، وقوة الاقتصاد تنعكس بالتالي على قوة الليرة، والعكس صحيح، والبرهان على ذلك ليس بالصعب، فنحن نعاني من خلل بنيوي في جذور اقتصادنا الوطني، ولم تلجاً الحكومات المتعاقبة إلى تصحيحه، بل إنها «زادت الطين بلة»، فميزان المدفوعات والميزان التجاري هما عنوان قوة الليرة، لأن الميزان التجاري هو الذي يوفر القطع الأجنبي من الخارج عبر تصدير المنتج الوطني، وهو الذي يعطي الليرة قوتها، إلا أن استعراضنا لواقع حال الميزان التجاري، يؤكد أن هذا الميزان يعيش أزمة كبرى، ُخلقت مع بدء سنوات الانفتاح الاقتصادي، فالعام 2003، كان هو العام الأخير الذي حقق فيه الميزان التجاري السوري الأرباح، بقيمة تصل إلى 32 مليار ليرة، لتبدأ بعدها سلسلة خسائر الميزان التجاري، مروراً بعجز تجاري 130 مليار ليرة في عام 2009، ونحو 243 مليار ليرة في عام 2010، فمن أين سيأتي النقد الأجنبي في هذه الحالة؟! ونحن نعاني من كل هذا العجز في الميزان التجاري! وهذا يذكر بمطلبنا عبر صحيفة «قاسيون» في عام 2010 تقنين الاستيراد، أسوة بكل أشكال التقنين الأخرى التي تطرحها الحكومة، حفاظاً على المنتج الوطني، والليرة السورية عبر تدفق النقد الأجنبي، ودعماً للاقتصاد السوري، إلا أن مناشدتنا لم تلقَ أذاناً صاغية وقتها!..
نحو إحياء الميزان التجاري!
المطلوب اليوم، هو إعادة إحياء الميزان التجاري، الذي يتطلب الاعتماد على الزراعة ودعمها، وإنشاء صناعات قائمة على القطاع الزراعي، لأنهما عنوان الصادرات السورية، واختلالهما أدى لخسارة الميزان التجاري، وهما أيضاً عنوان قوة الاقتصاد الوطني، وبغير ذلك لن يعود للميزان التجاري ألقه، فلو كان لدى الحكومة فائض كبير في الاحتياطي النقدي لكانت تدخلت بشكل أكبر لتثبيت قيمة العملة، لكن احتياطاتها المحدودة، هي التي تقف عائقاً بوجه هذا التدخل..