!موازنة /2012/ قفزة في المجهول ولا توحي بالاطمئنان

!موازنة /2012/ قفزة في المجهول ولا توحي بالاطمئنان

الحكومة تفكر بتمويل الإنفاق الجاري بالعجز وهذا غير مقبول اقتصادياً موازنة حكومية مفاجئة، أو بالأحرى، فقاعة حكومية وهمية، لا تجد من المؤشرات ما يدعمها أو يساندها، فخارج سياق الموازنات السابقة، أتت موازنة عام 2012، لتخط بيديها رقم 1326 مليار كموازنة مرتقبة، وهو ما يقارب 50% من الناتج المحلي الإجمالي لسورية، بينما لم تتعدّ نسبة أفضل الموازنات السابقة 30% من هذا الناتج، فالرقم كبير، وهو ما قد يعتبره البعض مؤشراً إيجابياً، إلا أن حجم الإيرادات التي يمكن تحقيقها، ونوعية التمويل، وحجم الإنفاق الاستثماري، كلها قواعد تقييمنا لهذه الموازنة، فالانبهار بالأرقام الخلبية المجردة لا يوصل السوريين ولا الاقتصاد الوطني إلى الاستقرار..

غير قابلة للتحقيق

491 مليار الزيادة النظرية في موازنة عام 2012 مقارنة بالعام الماضي، والتي تأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد من الركود، ومن تراجع محتمل في الإيرادات العامة، ومع اعتماد موازنة كهذه هي الأكبر بكتلتها وبنسبتها من الناتج المحلي في تاريخ سورية، يعني إما أن هناك فورة مرتقبة في الإيرادات لا تعلمها إلا الحكومة، ولا تدري بركائزها سواها!. أو أن هناك خطة حكومية «طموحة» لتمويل الموازنة بالعجز، ولهذا آثاره السلبية على السوريين وعلى الاقتصاد على حدٍ سواء. ولكن ما هي حقيقة هذه الاعتمادات الكبيرة في الموازنة اليوم، والتي ستساهم بتدمير الاقتصاد إن لم تكن واقعية؟!

يشير د. غسان طيارة وزير الصناعة الأسبق إلى أن «وضع مثل هذا الاعتماد للموازنة العامة في ظل وجود غياب للإيرادات سيؤدي بالضرورة إلى التضخم والعجز في الموازنة بمحصلة الأمر، وهذا يعني تآكل القيمة الشرائية لليرة السورية، أي أن قسماً من الشرائح الوسطى سينحدر بمستوى معيشته إلى الطبقات الفقيرة، وسيزيد فقر الطبقات الفقيرة، فهذه الميزانية هي قفزة في الفراغ، فحتى لو استطاعوا تحصيل قيمة التهرب الضريبي (200 مليار ليرة)، وهذا أمر مشكوك به، فإن ذلك لن يكفي لتأمين هذا المبلغ الضخم الكافي لتغطية النفقات الجارية في الموازنة العامة، ولا مؤشرات لإمكانية تحقيق هذه الإيرادات واقعياً»..

والأمر لا يتوقف عند هذه المؤشرات فقط، بل إن هناك سلسلة من الاستحقاقات الضرورية التي وعدت بها الحكومة ستتأخر إن لم نقل لن تحل في المدى المنظور، حيث أشار إلى أن العجز «سينعكس بتأخير تخفيض البطالة، وتأخير إصلاح القطاع العام كذلك الأمر، فعلى الحكومة أن تطمئن السوريين أن ما تقوم به هو خطوة صحيحة، وقابلة للتحقيق، وإذا كانت هذه الخطوة قابلة للتحقيق، فلا يجوز أن تنخفض النفقات المخصصة للاستثمار إلى 28,8%»..

«زيادة الجاري» مخيف اقتصادياً

لتفصيلات الموازنة العامة بين جانبيها الاستثماري والجاري، دور أساسي في الحكم عليها، والتنبؤ بنتائجها سلفاً، كما أن بين التخطيط والتنفيذ بوناً شاسعاً، فجميع الموازنات السابقة لم تنفذ بالكامل وخصوصاً في شقها الاستثماري. إن أرقام الموازنة المعلنة لعام 2012 بحسب د. طيارة «تدل على زيادة في الموازنة العامة بنسبة 58% مقارنة بالعام السابق، والسؤال الأساس الـ 58% من أين أتت؟! فلو عدنا وقارنا بين ميزانية 2011 والموازنة الحالية، نجد أن المشاريع الاستثمارية في عام 2011 كان مخصصاً لها نفقات 380 مليار ليرة، بينما ما هو مخصص للجانب الاستثماري في عام 2012 لا يتجاوز 375 مليار ليرة فقط، وهذا يعني التراجع في اعتمادات المشاريع الاستثمارية، مما يعني أن هذه الزيادة في الموازنة قد صبت على النفقات الجارية، وهذا أمر مخيف اقتصادياً»..

 

التمويل بالعجز يخلق أكثر من تضخم

للتمويل بالعجز شجونه ومخاوفه، وهذا ما تبشرنا به الحكومة في موازنتها اليوم، لأن لا إيرادات تلمع في الأفق، فلا محاربة للفساد الذي يستنزف 800 مليار ليرة سورية سنوياً، ولا حملة على كبار المتهربين من سداد ضرائبهم المستحقة، وهذا سيعني تمويلاً لـ40% من الموازنة بالعجز، وعند هذه النقطة أشار د. طيارة إلى أن «العجز المخطط في ميزانية عام 2011 كان يزيد عن 6%، والعجز كان استثمارياً أكثر منه جارياً، أما في موازنة 2012 فالمعادلة مختلفة تماماً، فالجاري هو المتضخم بشكل أساسي، فكيف يمكن لذلك أن يكون، إذا ما علمنا أن 95% من هذا الجانب يتم صرفها لأنها على شكل رواتب وأجور ونفقات إدارية مختلفة؟! فإذا كان عام 2011 يوجد عجز في إيرادات الموازنة، فما هو حجم العجز الذي سيصيب ميزانية 2012»؟!..

التمويل بالعجز بحسب د. طيارة من الأمور شبه المستحيلة، ولا يرغب بهكذا نوع من التمويل إلا لمشاريع استثمارية ذات عائدية اقتصادية سريعة ومناسبة، ولكن هنا، كيف ستمول رواتب وأجور العاملين في الدولة إذا عجزت الإيرادات؟! هل ستتم عملية سحب عالمكشوف؟! أم عن طريق السندات؟! هذا سيخلق أكثر من تضخم، ويمكن أن تكون أفضل الطرق هي ضخ عملة جديدة في السوق، وهذا سيخفض قيمة العملة الوطنية، ولا أعتقد أن وضع هذه الموازنة يوحي بالاطمئنان للناس!..

 

وعود في الهواء

الإنفاق الاستثماري في الموازنة الحالية انخفض نسبة ورقماً مقارنة بالأعوام السابقة، وهذا ما يعتبره الكثير من الاقتصاديين مؤشراً سلبياً على جدية الحكومة في معالجة أهم مستحقاتها، وخصوصاً بالنسبة لسورية التي تعاني من ارتفاع في نسب البطالة والتي تتطلب زيادة في حجم هذا الإنفاق، أي أن وعود الحكومة بحلحلة مشاكل السوريين ستبقى حبراً على ورق لا أكثر، فالمعطيات لا تبشر بالخير مطلقاً، حيث اعتبر د. طيارة أن «الإنفاق الاستثماري في عام 2011 كان يعادل 45% من إجمالي الموازنة العامة، بارتفاع بنسبة 16,2% (53 مليار ليرة) عن عام 2010، أما نسبتها في موازنة عام 2012 فلا تتجاوز 28,8% من الموازنة العامة، فالتخطيط لزيادة في الإنفاق الاستثماري مفيد حتماً في زيادة المشاريع الاستثمارية، التي تعني زيادة فرص العمل، وزيادة إنتاج تأمين منتجات نحتاجها، آخذين بعين الاعتبار التضخم الذي يحصل والزيادة في الأسعار، وهذا يضع الجدية التي تتحدث عنها الحكومة لإصلاح القطاع العام موضع شك، لأن إصلاح هذا القطاع يتطلب تطوير التجهيزات، تأمين فرص عمل لفنيين خبراء، وكل ذلك يتطلب زيادة في الإنفاق الاستثماري، ولا أعلم كيف ستتمكن الحكومة من تنفيذ وعودها بأن 2012 سيكون عام إصلاح القطاع العام!».

 

زيادة «الجاري» لا تعني تحسن المعيشة

على الضفة الأخرى، قد يعتبر البعض أن زيادة حجم الإنفاق الجاري (951 مليار ليرة) في الموازنة العامة مؤشر على سعي الحكومة لتحسين سوية الرواتب والأجور، على الرغم من قناعتنا ومعرفتنا الكاملة بأن هذا العملية –حتى لو حصلت- فإنها لن تنعكس على شرائح المجتمع السوري كافة، ولكن هل لهذا الإدعاء ما يبرره على أرض الواقع. يوضح د. طيارة أن «الإنفاق الجاري يحسن المعيشة إذا ترافق مع زيادة في الإنتاجية، وهذه الزيادة تتم عبر تخصيص الأموال للإنفاق الاستثماري، فإذا لم يكن هناك زيادة في الإنتاجية لا يمكن أن أقول بأن مستوى المعيشة سيتحسن، وبالدخول إلى تفاصيل الموازنة الجارية، نجد أنه، وبعد استثناء النفقات المخصصة المعونة الاجتماعية (386 مليار ليرة)، يصبح لدينا ميزانية 565 مليار ليرة، وهذا يعني أن ما خصص للتعيينات من هذه الموازنة سيكون ضئيلاً جداً، ولن يبقى أكثر من 40 مليار ليرة لوظائف جديدة»..

 وكعادته، يعود بنا د. غسان طيارة إلى الماضي ليبني عليه استنتاجاته وآراءه، فلقضية الموازنة بالنسبة له أكثر من تعليق أو ملاحظات آنية، بل إن هناك أخطاءً متراكمة لا يرغب البعض في الأوساط الحكومية في حلها، حيث أشار إلى أن هناك «خطراً يرتكب دائماً بحق الموازنات السورية، والذي يتمثل بالديون التي تترتب على الموازنة العامة في كل عام من السنوات السابقة، كأقساط المعونات الاجتماعية أو الاقتصادية، حيث يوضع بند في هذه الموازنة بترحيل الديون المترتبة بعد عشر سنوات لدفع القسط الأول، أي أن أية ميزانية عليها ديون مترتبة من أقساط سابقة، وبالتالي، فإن على موازنة 2012 ديون مترتبة، وستصدر ضمن قانون الموازنة مادة لتقسيط هذه المبالغ الديون لعام 2022»..

 

وأخيراً يذكّر د. طيارةً بمحاولة مجموعة من الاقتصاديين تصفير أرقام الديون بشرط أن تبيّن الميزانية الحالة الراهنة للاقتصاد، وللوضع المالي في سورية، ولكن لم يستجب لهذا الطلب..