الحكومة.. وسرديّة المعاناة والصمود!
حديث رئيس الحكومة أمام النقابات في اجتماع مجلس الاتحاد العام لنقابات العمال بتاريخ 21 كانون الأول 2015، يستحق وقفة مطوّلة، ليس لإجاباته الشافية عن وضع الاقتصاد السوري وأحوال الناس التي قُدمت، بل كونه يستدعي نقداً من زوايا كثيرة، بدءأ بمعطياته الرقمية مروراً بمنطقه التبريري في لحظة ينتظر الناس إجابات شافية تحسن أحوالهم أو تعزيهم بعض الشيء وصولاً إلى منطق الرسائل الضمنية التي يحملها الحديث بطريقة غير مباشرة.
الحديث الذي ينطلق من اعتراف بتردي كل المؤشرات، ويرفض أي منطق للمقارنة مع ما قبل الأزمة كوننا (نعيش حرباً)، ويبرر كل التردّي بـ(الحصار والتخريب والحرب على الليرة) يبدو منطقياً إلى حدٍّ بعيد، لكنه يريد أن يوصل لنا أن (الحكومة تعاني أيضاً)، وكأن ما تتحدث الحكومة به عن «معاناتها» يوزاي معاناة الشعب!
المهم أن الحكومة وفق الحديث تدعي لذاتها لقب (حكومة حرب)، وكأن ذلك المصطلح هو طوق نجاتها، لا أعمالها التي لا تمت بصلة لمنطق حكومات الحرب التي عرفتها تجارب أخرى، فهل يعقل أن تدخل الحكومة حرباً وتستمر بسياسات التحرير ذاتها التي عُكف عليها قبل الأزمة على سبيل المثال؟!
صمود الشعب أم انتصار التاجر.. أي حكومة حرب تلك!
على ذلك لم يكن مستغرباً أن ينبري رئيسها للدفاع عن حفنة من التجار لا تتجاوز 25 شخصاً كونهم مارسوا بطولة (تخفيف وطأة الحصار عن الدولة السورية) وبذلك نالوا شهادة (حسن سلوك وطنية) بالقول إن: (الشريحة الأكبر من التجار تقوم بدور وطني كبير في ظل الحصار)!. حريّ هنا أن نسأل، ماذا عن أرباح هؤلاء ومستوياتها التي تضاعفت خلال الأزمة؟ أوليست أرباحهم المتضخمة عاملاً في تردي حال المواطن الذي اعترفت به الحكومة؟ وماذا عن ضرائب دخولهم ونسبها والتراخي عن جبايتها وعدم توضيح حجمها؟ وماذا عن إيرادات الجمارك من مستورداتهم؟ أليست نسبها تشي بتهرب كبير ما يقلص موارد الحكومة التي ينبغي لها تعبئة كل ليرة لدعم الجيش؟ أم أن التعامي عن مستويات أرباحهم المتضاعفة هو ثمن توريدهم للمواد الغذائية؟! ألم يكن ممكناً تخفيض هوامش ربحهم وضطبها مع استمرارهم تأمين المواد، لا سيما أنهم يتمولون من أموال السوريين في المصرف المركزي؟!.
لم يجب الحديث عن ذلك كله، بل اكتفى بالتأكيد على (ترتيب الأولويات وفق الإمكانيات)، والأولويات وفق الحكومة هي (صمود الجيش والشعب). ولكن الواقع الذي يشير إلى صمود الجيش لا يشير بتاتاً إلى أن وضع الشعب في حالة مقبولة، فماذا عن تحقيق هذه الأولوية؟! أليست يا ترى الضامن الأساسي لصمود الجيش؟! وأي نصر حينها سيتحقق وفق هذه المعادلة! وأي تسمية يجب أن تطلق على حكومة تزيد أرباح التجار، وتخفض النفقات على الشعب، حكومة حرب أم حكومة تجار؟
هل يلوح مشروع
سلب حقوق جديد في الأفق؟!
الحديث استفاض أيضاً بالتأكيد على استمرار الدعم، الذي اعترف رئيس الحكومة بتنبي (عقلنته)، لكن الأمثلة التي سيقت لتبرير استمرار (دعم معقلن) تستحق الوقوف مطولاً. والبدعة الجديدة التي أضافتها الحكومة في هذا الحديث هو تصنيف إنفاقها على الصحة والتعليم والتربية أنه دعم اجتماعي أيضاً. طبعاً هنا أسقطت الحكومة بديهيات علم الاقتصاد، فأسقطت مقولة أن (الدعم هو بيع الشيء بأقل من تكلفته الحقيقية وذلك لتعويض إنخفاض الدخول و الأجور)، وأسقطت أيضاً بديهية كون (الإنفاق على الصحة والتعليم والتربية) هو حق للشعب كونه المنتج للثروة ودافع الضرائب الرئيسي للحكومة، التي من واجبها أن تعيد توزيع الدخل الوطني من باقي الشرائح الاجتماعية (أصحاب الربح كالتجار) بالإنفاق الاجتماعي. إن الإنفاق الاجتماعي ليس منّة من الحكومة إطلاقاً، بل حق للشعب غير خاضع لأي “بازار”، وهو أمر مختلف عن فكرة الدعم، التي هي أيضاً حقّ للشعب نتيجة ضبط الحكومة لأجور كادحيها من الطبقة العاملة.
وعليه إن الدعم والإنفاق الاجتماعي واجبين على الحكومة وفي ظل الأزمات والحروب تزداد ضرورة كل ذلك، طالما أن الحكومة لا تسمح بتحرير أجورها رغم أنها تسمح للسوق بأعلى هوامش ربح يفرضونها. لكن السؤال الخطير والذي قد يستشف كرسالة ضمنية هنا من حديث الحكومة، فهل وصف الإنفاق على الصحة والتعليم والتربية أنه (دعم) هو خطأ علمي أم أنه خطوة لتطبيق عقنلة الدعم في هذه القطاعات؟!
تضخيم الأرقام..
أين الموازنات الختامية؟!
أما الحديث عن أرقام الدعم الكبيرة في مجال الكهرباء، فهو مضخّم، وأصلاً لم تصدر الحكومة ميزانية ختامية عن عدة أعوام سابقة لتدّعي صحة إنفاقها، ناهيك عن كون معظم هذه الأرقام ناتجة عن الحساب المكرر لرقم دعم المحروقات، فمن المعروف أن تكلفة الكهرباء المنتجة تأتي من المحروقات المستخدمة في التوليد. كما أن أرقام دعم الغاز المنزلي تحتاج إلى مراجعة وتدقيق بفعل إنخفاض الأسعار الدولية بعد إنخفاض سعره عالميا.
الغريب أن الحديث ساق مثالاً عن الدعم الانتقائي لتبرير نجاح تجربته، وهو مثال تحديد كميات المازوت المستحقة لكل مواطن بـ 400 ليتر فقط، ويضيف الحديث (أن المواطن الذي يريد أن يشتري كمية أكبر فليذهب ويؤمن)! هل نسي رئيس الحكومة أن تأمين المزيد غير ممكن إلا من السوق السوداء وبأسعارها المضاربة على سعر الحكومة ومن تجارها الفاسدين؟ هل قصد الحديث أنّ تأمين كمية 400 ليتر بالسعر الحكومي هو حق للمواطن والزيادة عن تلك الكمية متروكة للمواطن و”شطارتو” ولبازار فساد السوق السوداء. وبالتالي ألا يمكن أن يشير ذلك الحديث إلى أن سعر السوق السوداء ودورها هما شبه شرعيان؟!! لا نظن أن الحديث قصد ذلك طبعاً، لكن مثال الدعم الانتقائي هنا غير واضح مطلقاً.
قانون التشاركية..
طمس للحقائق!
(التشاركية تزيد أصول القطاع العام)، وسببها (عجز الحكومة عن تمويل التوسع بالاستثمار)، هكذا يقول حديث الحكومة! هنا سنعود مرة أخرى للحديث عن الموارد غير المعبأة في خزينة الدولة، وأهمها ضرائب الأرباح، فالمفارقة أن الأرباح تتضاعف بينما لا تزيد الضرائب عليها إلا بنسب ضئية جداً. ثم ماذا عن أموال كبار الفاسدين الذين كانت تستحوذ على ثلث الدخل الوطني، هل نُسيت هذه الحقيقة أم يُراد طمسها في ظل الحرب؟! ولماذا يتم تمويل التجار للاستيراد من المصرف المركزي، ولا يتم تمويل مشاريع الحكومة من المصدر ذاته؟ وماذا عن ودائعنا في المصارف المحلية التي ادعت الحكومة تحسنها، ألا تستطيع تمويل مشاريع الحكومة، وماذا عن استثمارات دول الخليج التي لا تزال تعمل في سورية ألا تشكل مصادرتها مصدراً للتمويل؟!
الليرة مرة أخرى.. المواطن سبب!
أكد الحديث ومن غير لبس هذه المرة تصريحاً سابقاً لوزير الاقتصاد مفاده أن (المواطنين الذين هاجروا في شهر تشرين الثاني شكلوا طلباً إضافياً على الدولار في السوق السوداء ما شكل أحد عوامل التدهور في حينه). هنا حري أن نسأل وماذا عن دور تجار السوق السوداء ومكافحتهمم؟ وما هي مبررات تحرير سوق الصرافة والسماح ببيع الدولار دون حساب ضرورته عبر هذه الشركات؟ ألم يتحدث رئيس الحكومة عن أن دور شركات الصرافة في تمويل المستوردات لا يتجاوز 8%، إذاً ما ضرورة هذه الشركات؟ وما هي ضرورة بيعها للدولار بالتالي؟
ويبقى السؤال عن السبب في تدهور سعر الليرة، فهل التدهور عائد للسياسات الحكومية التي حررت وسمحت بالتجارة بالدولار والمضاربة وخروجه أم بفعل المواطنين الذين يشترون هذه الدولارات المباحة في السوق؟
يضيف رئيس الحكومة للدفاع عن سياسات المصرف المركزي، أن الحكومة والمصرف المركزي يأخذون القرارات بشكل مشترك. يبدو هذا التوضيح دفاعاً بائساً عن المصرف المركزي، فمن المعروف أن الحكومة والمصرف المركزي ليسا إلا منفذين لسياسات تخدم بعناية مصلحة كبار هوامير المال، فلا داعي لهذا الجواب البيروقراطي الطابع!
الحديث أكد دوراً كبيراً للحكومة في إغاثة المهجرين، لا توضحه بيانات الموزانة أبداً!. لا يهم ربما. فحتى الأرقام الموضحة في الموازنة لم تعد تعني الكثير للشعب السوري، الصامد والمقاتل كجيشه، رغماً عن سياسات لن يطول حسابه معها، ولن ينفع حينها الإنقلاب على الحقائق والحقوق وزيف المبررات الواهية!