ملف إعادة إعمار سورية (10) لبنان: بين الإعمار والتنمية.. مصلحة من؟!
لقد أوضحنا في العدد 727، فكرة أثر الاتجاه الدولي السائد في المجال الاقتصادي وحتى السياسي على عملية إعمار لبنان، حيث اتسم الوضع الدولي بالفوضى التي رسخها الاتجاه النيولبيرالي في الاقتصاد العالمي وهو ما انعكس مباشرة على تجربة إعادة إعمار لبنان، والتي ستوضحها مقالة اليوم.
سامر سلامة
وإذ يؤكد جورج قرم أن (السياسات والأساليب الإنمائية، في أي بلد كان، لا تجري في الفراغ، بل هي تستلهم علناً أو ضمناً، الأجواء الدولية والإقليمية الاقتصادية والمالية السائدة والمهيمنة)(1)، والتي تتأثر بها البلدان صغيرة الحجم أكثر من سواها، وفقاً لقرم.
وقد وسم قرم سياسات إعادة الاعمار تلك بسمات عامة مشتقة من الأجواء السائدة دولياً التي لخصناها في العدد الماضي بعدة نقاط عامة جوهرها أن ذلك النموذج هو إعماري وليس إنمائياً، خفض الضرائب على الشركات وعزز سطوتها على حساب إيرادات الدولة ودورها، فقُلص دور القطاع العام بعد استثماره من القطاع الخاص وفق نظام الـ BOT، وكُرس لبنان كمركز تجاري وخدمي ومصرفي وفقط(2).
رهان الاستقرار الغائب
بالإضافة إلى تلك السمات المتأتية من التأثر بالظرف الدولي وضع جورج قرم جملة من التحفظات على سياسات إعادة الإعمار انتقد فيها رهانات الخطة الإعمارية التي لم تراعِ ظروف لبنان الخاصة وهي على الشكل التالي(3):
1-الرهان على عودة السلام للمنطقة وبالتالي على إمكانية استعادة لبنان لدوره التجاري الذي احتله سابقاً.
2-الرهان على أن النمو الاقتصادي الذي سيتحقق سيقضي على التبرّم الاجتماعي وحالات التهميش.
3-أن النتائج المالية ستكون إيجابية بناء على النجاح في الرهانين الأول والثاني، ما سيسمح بتأمين تمويل الخطط دون زيادة الدين العام الداخلي أو الخارجي.
ووفق المحور الأول أي الرهان على عودة السلام وانعكاسه على دور لبنان التجاري، فقد أوضح جورج قرم خطورة الاعتماد على سياسة «أحادية الجانب»، ما يعني ضرورة أن تأخذ كل الظروف السياسية والاقتصادية الداخلية والإقليمية والدولية، والتنبؤ وفق كل الاحتمالات، فلربما تعاكس الخطة الظروف المتغيرة وغير المستقرة، وعليه يرى قرم ضرورة الوقوف عند تساؤل هام وهو: (ما ستؤول إليه السياسة الإعمارية الحالية في حال استمرار المنطقة في وضع غير مستقر(4). ولا أدل على ذلك ربما إلا ما حصل في تمويل خطة إعادة الإعمار الأولى في عام 1990 المعتمدة على صندوق إعادة الإعمار، والذي تلاشى بسبب حرب الخليج الثانية إبان اجتياح العراق للكويت في العام ذاته(5).
البعد الاجتماعي المفقود!
بالنسبة للتحفظ الثاني الذي أبداه قرم حول (النمو الاقتصادي المفترض وانعكاساته الاجتماعية) في الخطة العشرية في مرحلة إعادة الإعمار، والذي كان عند 7% فقط، يرى قرم أن (السياسة الإعمارية لم تقم بحساب الحاجات الاجتماعية بدقة وتفصيل على الرغم مما أصاب جميع الفئات اللبنانية من ويلات متتالية خلال سنوات الحرب)(6).
إن هذا الجانب السلبي في تلك السياسة يفتح على جانب آخر يتأتى منه غالباً وهو دور الدولة المطلوب، والذي قضت الأجواء النيوليبرالية السائدة في لبنان على أي احتمال لاستنهاضه، فالدور الاجتماعي يحتاج إلى حوامل مادية لا يمكن أن توجد إلا في الدولة التي كان من المفترض أن تمارس دوراً رعائياً وتنموياً قد يؤدي بالحد الأدنى إلى تشغيل فئات واسعة من المهمشين ما يحقق الحد الأدنى من الجانب الاجتماعي، إلا أن ذلك لم يكن موجوداً حتى في حده الأدنى.
ولنتبين ذلك، فيكفي أن نشير إلى أن معدلات الإنفاق الاستثماري العام(7) في الخطط الإعمارية بدأت بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1992، ثم ذروتها بنسبة 9% في بين عامي 1994 و1998، ثم عادت لتنخفض إلى أقل من 3% منذ مطلع عام 2000، وهذه نسب متواضعة، لا ترقى إلى مستويات حل المعضلات المتراكمة إبان الحرب(8).
هيمنة قطاع الخدمات لمصلحة من؟!
يضاف إلى ذلك مشكلة جوهرية أخرى في المشاريع الاستثمارية الحكومية في لبنان فلم تكن المشكلة في حجمها من الناتج فقط، بل في طبيعة تلك الاستثمارات والتي تركز جلها تقريباً في القطاعات الخدمية الرئيسية، وبالتالي غاب عن الحكومة الدور الأساسي المنوط بها في مرحلة حاسمة، سواء في مجالات النمو الحقيقية كالزراعة والصناعة أو حتى في مجالات الصحة والتعليم، وباستعراض مجالات إنفاق تلك المشاريع المنفذة في الفترة بين 1992-2008 نجدها موزعة وفق الجدول(9):
ن الميل الطبيعي لكل استثمار هو سعيه إلى الربح، وإن الميل الطبيعي في مراحل ما بعد الحروب يؤوب لتلك القطاعات الأكثر تدميراً، ولذلك كان من البديهي أن تدفع العديد من القوى المهيمنة للعمل على تعمير البنى التحتية المدمرة كقطاعات البنى التحتية والكهرباء، وأن تركز جل الاستثمارات الخاصة على المجالات التجارية والعقارية والمصرفية الرابحة تاريخياً في لبنان. ولكن ذلك هو جوهر الخطأ القاتل في تلك السياسية «الإعمارية لا الإنمائية»، فكان ينبغي التركيز على تلك القطاعات بمقدار ما تخدم عملية نمو الإنتاج وحل المهمات الاجتماعية الضرورية، لا أن تكون مهمات إعمار ما قد هدم هي الرئيسية. إن ذلك التغير الضروري في تلك اللحظة هو مسألة تناط بالحكومة وسياساتها التي غاب عن أجنداتها كل ذلك فرضخت للاتجاه السائد حينها.
خلاصة وخاتمة:
لقد استعرضنا في هذه الحلقة أول تحفظين من تحفظات الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور جورج قرم مستندين إلى أبحاث أخرى، وسنعرج على توضيح ثالث التحفظات المتمثل بـ (تأمين التوازن المالي في السياسة الإعمارية) في العدد القادم، مع توضيح دور الفساد والقوى الاقتصادية من أصحاب الرساميل والمستثمرين والسلطة السياسية الحاكمة في تكريس نموذج «إعماري» محدد.
أما فيما يمكن التعليق عليه في هذا العدد فهو أن ما خلصنا له يشير إلى أن ما عُمل عليه في لبنان هو إعمار المناطق المدمرة، وليس العمل على تنمية البلد وصياغة نموذج بديل قادر على حل المشكلات المتراكمة قبل الحرب وأثناءها واستشراف المستقبل المنظور، وبذلك فإن أقل ما يُقال عن هذه السياسة إنها قاصرة عن الإحاطة بكل التحديات وتنطلق من التركيز على الماضي لا أكثر.
لكن عيب هذه السياسة الجوهري هو ليس في أنها نموذج لـ»إعادة إعمار» وليس التنمية وحسب أو أنها تركز على الماضي لا على المستقبل والواقع الحالي، بل لأنها انطلقت من ضرورة تخديم شريحة محددة من المستثمرين هدفهم الربح السريع من الوضع القائم لا تغييره، وإهمال باقي الشرائح الفقيرة الأكثر تضرراً من الحرب والتي بات مستقبلها مجهولاً، وبالتالي كان من الطبيعي أن تركز مثل هذه السياسة في مشاريعها على خدمة الرساميل لا خدمة الشعب البسيط الذي تفاقمت مشاكله خلال 15 عاماً من الحرب الأهلية.
هوامش:
1- الإعمار والمصلحة العامة جورج قرم، ص81.
2-المرجع السابق نفسه ص83 .
3-المرجع السابق نفسه ص86.
4- المرجع السابق نفسه ص87.
5-ورقة عمل مقدمة من رئيس مجلس الإنماء والإعمار المهندس نبيل الجسر، ص3.
6- الإعمار والمصلحة العامة، جورج قرم، ص90
7-راجع الشكل رقم2 الوارد في ورقة عمل المهندس نبيل الجسر ص7.
8-ورقة عمل لنبيل الجسر ص2، حيث يرسم حاجات الوضع الراهن وفق ثلاثة محددات هي (عدم ملاءمة الخدمات العامة مع النمو والتوزع السكاني الجديدين، وتدهور الوضع بسبب الحرب، وتدهور الخدمات بسبب غياب الصيانة)، وباعتقادنا أنه حتى هذه المحددات ليست كافية، فماذا عن المشاكل الاجتماعية لما قبل الأزمة وما بعدها المتعلقة بانزياح مزيد من الثروة لأيدي الأغنياء وتراكم مزيد من الفقر والبطالة والمهمشين.
9-الجدول مأخوذ كما هو وفق ورقة عمل المهندس نبيل الجسر ص14.