تمويل المستوردات: دَعْم التجار والصرّافين والسوق السوداء على حساب المواطن والاقتصاد!
أعلن المصرف المركزي أحدث إجراءاته بما يخص التدخل لضبط انخفاض سعر الليرة، وكالعادة كرر المركزي الإجراءات نفسها من حيث المبدأ وهي المزيد من بيع الدولار للصرافين، لتمويل مستوردات التجار، وزاد على ذلك جملة من التسهيلات الإضافية لتمويل المستوردات، أبرزها بيع 100 مليون دولار للصرّافين، ورفع سقف تمويل إجازات استيراد، عبر شركات الصرافة، من 100 إلى 150 الف دولار، والعمل على تمويل إجازات الاستيراد التي تفوق ذلك المبلغ عبر المصارف المرخصة.
وتناقش قاسيون في هذه التغطية عيوب عملية (تمويل المستوردات) وآثارها، التي تخسر البلاد كميات كبرى من العملات الأجنبية وتسهم في رفع الأسعار وتراجع قيمة الليرة، وستُطرح جملة من الإجراءات البديلة، التي تحقق زيادة في الإنتاج المحلي وتأميناً لحاجات المواطن وضبطاً لسعر الليرة.
تشير الحكومة إلى أن هدفها هو (تأمين الحاجات وتدفق السلع)، في ظل تراجع الإنتاج، مهما كانت الأسعار، وعلى ذلك أطلقت اليد لعمليات الاستيراد، عبر تمويلها لمستوردات جزء هام من التجارة الخارجية. ووفقاً لهذه الإجراءات استخدمت الحكومة والمصرف المركزي احتياطيات العملية الأجنبية، بحجة تأمين السلع، وتخفيض أسعار السلع المستوردة، باعتبار أنها ممولة بدولار مدعوم، أي سعره أقل من سعر السوق.
نتائج أولية لسياسة التمويل
بلغ حجم تمويل المستورادت 2,5 مليار دولار تقريباً في عام 2014 وحده، وهذا رقم قياسي بالمقارنة مع السنوات السابقة التي قدرتها قاسيون بـ1,1 مليار دولار بين عامي 2011 و2013 (راجع العدد 644 بتاريخ 9 آذار 2014 مقالة بعنوان الاحتياطي النقدي السوري خلال الأزمة...).
ارتفاع أسعار مستمر
لا تجد الحكومة لتبرير سياسة استنزاف الاحتياطي، في تمويل المستوردات، إلا التعلل بأن ذلك أسهم باستمرار في تأمين مختلف السلع في السوق وعدم انقطاعها رغم الأزمة، ولكن ماذا عن أسعارها؟ هل يستطيع غالبية المواطنين شراء هذه السلع؟
لم تساهم عمليات تمويل المستوردات في الواقع في تثبيت مستوى الأسعار (باستثناء بعض السلع ذات التدفق الكبير كالسكر والأرز)، أي أن أسعار السلع المستوردة ارتفعت، مع زيادة سعر الدولار في السوق السوداء، رغم أنها تُمول بالدولار، من المصرف المركزي بسعر منخفض عن السوق السوداء.
لقد ارتفعت أسعار السلع الأساسية لأربعة أضعاف تقريباً، وفق بيانات المكتب المركزي للإحصاء الذي أشار إلى أن التضخم التراكمي بين 2010 و2014 لمكون الأغذية والمشروبات غير الكحولية بلغ: 382%.
بينما لم يرتفع سعر الدولار الممنوح للتجار من (المركزي) إلا مرتين أو مرتين ونصف كحد أقصى، حيث ارتفع سعر الدولار من حوالي 50 ليرة للدولار في 2010 إلى 156 ليرة وسطي سعر الصرف في عام 2014 أي أن الارتفاع يبغ عملياً: 212%.
يشير ذلك إلى أن مستويات الأسعار الإجمالية في السوق، بمجملها مرتبطة بتغيرات سعر الصرف في السوق السوداء، وتصل ارتفاعاتها غالباً أعلى من مستويات ارتفاع الدولار الرسمي، وهذا يعني أن تمويل مستورادت التجار بدولارات رخيصة من المصرف المركزي، لم يعد على المواطنين بالشيء المطلوب.
بالإضافة إلى ما تقدم ينبغي أن نسأل أيضاً هل يكفي الحديث عن تأمين المواد في السوق، لنقيم عملية الاستيراد بشكل عام، وتمويله إيجاباً، أم علينا التوقف لنرى أبعاد هذه السياسة على الإنتاج الوطني والليرة السورية في هذه الظروف؟
الصناعيون يطالبون بتخفيف الاستيراد!
لقد أدى منطق التمسك بضرورة تدفق السلع، عبر الاستيراد الممول حكومياً، أو غير الممول، إلى المساهمة في إضعاف قدرة المنتجات المحلية على المنافسة، وهو ما أدى إلى انتقادات جدية من غرف الصناعة السورية لسياسات الحكومة، فبزيادة الاستيراد عموماً يتم ضرب المنتج المحلي، فبدل دعمه، يتم إدخال مواد مستوردة ترهقه بمنافسة غير شريفة في ظل الأزمة. وهذا هو حال الألبسة وقطاع النسيج، والذي حدا برئيس اتحاد غرف الصناعة السورية فارس الشهابي إلى رفع نداء إلى وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية أكد فيه على مطالب الصناعيين السوريين: (ضرورة تأمين كل الحماية الممكنة لصناعة الألبسة الوطنية، وذلك عبر إيقاف منح إجازات الاستيراد للألبسة الأجنبية)!.
هيمنة السوق السوداء
إن مجموع ما تم ضخه لتمويل المستوردات، بين عامي 2011 و2014 يبلغ حوالي 3,6 مليار دولار بالحد الأدنى، وبالمجمل لم تنجح هذه الآلية إلا في زيادة تدفق الدولار إلى السوق السوداء وزيادة مستوى المضاربة، وهو ما تعترف به الحكومة اليوم بشكل علني وصريح، دون أن تعلن مراجعتها الجدية لسياسات التمويل.
إن وصول الدولار للسوق السوداء، لم يخفض سعره، بل جعل السوق السوداء المتحكم الأكبر بسعر الدولار، بدلاً من المصرف المركزي، وهو ما تثبتّه التصريحات الحكومية، بأن جزءاً كبيراً من التجار الذين تُموّل مستورداتهم، يستخدمون البيانات المزورة والدولارات الممولة، للمضاربة في السوق السوداء!. كما أن زيادة الاستيراد بشكل عام أدت إلى زيادة الطلب على الدولار في السوق السوداء وهو ما يعطي المبرر الكافي لهوامير السوق، لرفع سعر الدولار بشكل مستمر، ما يدفع المركزي للضخ باستمرار.
لكن ما لم يتحدث عنه كثر هو تعويض هذه الدولارات، فالعائد من تمويل هذه المستوردات من المركزي هي أموال بالليرة السورية، ومع إنخفاض قيمة الليرة فإنه من المستحيل أن يتم تعويض الدولارات الممنوحة للتجار بقيمتها الحقيقية السابقة، فهل يتم إعادتها بالقيمة الحالية لليرة أم بقيمها السابقة؟! فإذا كانت ترد بالقيمة الحالية لليرة السورية فهذا يعني أن هناك هدر مستمر لأموال السوريين والتي يكسبها التجار!
طريق آخر ممكن بهذه المليارات
طالما أن عملية تمويل المستوردات، أدت إلى تدهور سعر الليرة وتأمين مواد مرتفعة السعر، وتأثير سلبي على الإنتاج الوطني، ما منعه من النمو، فمن الضروري البحث عن وسيلة تجمع بين تلك المحددات لمواجهة التراجع الاقتصادي، وتدهور معيشة الناس. أي تأمين السلع الضرورية للاستهلاك والإنتاج المحلي من جهة، وهو ما يضمن الحفاظ على قيمة الليرة، أي قدرتها على شراء الحاجات الضرورية ودعمها بزيادة الإنتاج المحلي.
وبهذه الحالة يتم ضبط وتحجيم عملية تمويل المستوردات، ووضعها في سياقها الضروري، أي خدمة الإنتاج الوطني والاستهلاك الشعبي، عبر تأمين الحاجات الضرورية وضبط سعر الليرة وتحسين قوتها الشرائية، ليتاح للمواطن معيشة أفضل في ظروف الأزمة، وليس العكس كما تفعل الحكومة.
ممكن أن نعمل بـ 2,5 مليار دولار التالي:
ولكن ينبغي السؤال أي سلع يجب أن تمول؟ ومن سيستورد؟ وكيف ستوزع؟ السلع التي من المفترض استيرادها من دولارت المصرف المركزي، بسعر صرف منخفض عن سعر السوق، هي السلع الضرورية أولاً لحاجات الغذاء غير المنتجة محلياً، مثل: الأرز، والسكر، والحبوب التي تراجع إنتاجها، والمواد الزراعية العلفية، كالشعير والذرة الصفراء وفول الصويا، والكسبة، بالإضافة إلى الشاي وتعويض النقص في منتجات الألبان الضرورية.
سلة غذائية مجانية أو بسعر مدعوم
حيث لا يكفي تمويلها بسعر منخفض للدولار، بل وينبغي أن يستورد الجزء الأكبر منها حكومياً إن أمكن، أو أن تحصل الحكومة على نسبة من مستوردات القطاع الخاص لها، ليتم توزيعها بأسعار مدعومة أو مجانية. بما يؤمن تأمين الحاجات الغذائية الضرورية وتأمين القدرة على استهلاكها، وهو أهم عامل في تعزيز قيمة الليرة الحقيقية، بحيث يتم تخفيف أسعار الغذاء، وبالتالي قدرة الأجور بالليرة السورية، على تأمين حاجات الغذاء.
احتسبت قاسيون تكلفة سلة غذائية ضرورية شهرية تحوي: 5 كغ أرز، 5 كغ سكر، 5 كغ برغل، 2 كغ عدس، 2 ليتر زيت نباتي، 1 صحن بيض شهرياً، 1 كغ حليب بودرة، 1 كغ شاي) لأكثر من 4 مليون أسرة سورية (أي كامل الأسر السورية قبل التهجير، أي حاجات السوريين في مخيمات اللجوء في الخارج أيضاً).
وكان مجمل التكلفة الحكومية لذلك 240 مليار ل.س أي حوالي: 1,1 مليار دولار بسعر الصرف الرسمي 215 ل.س/$، أما بسعر صرف التدخل البالغ 240 تقريباً، فإن المبلغ يصبح 1 مليار دولار تماماً.
ينبغي الإشارة إلى أن هذه السلة احتسبت تكاليفها بأسعار السوق المحلية، أي أن تكاليفها الفعلية أقل من أسعار السوق، التي تتضمن الربح والاحتكار.
باختصار لو قامت الحكومة باستخدام 44% من المبالغ التي مولت بها مستوردات التجار في عام 2014 وحده البالغة 2,5 مليار دولار، لتمويل السلة الغذائية الضرورية المجانية، لكانت حققت زيادة حقيقية في قيمة الليرة السورية، وفرضت على التجار المستوردين الآخرين، أن يخفضوا أسعارهم نتيجة المنافسة مع السلع المستوردة حكومياً.
دعم مواد ضرورية للإنتاج الزراعي
يضاف إلى ذلك تمويل مستوردات السلع الضرورية لإنتاج الغذاء مثل المواد العلفية، فعلى سبيل المثال: احتسبت قاسيون تكاليف استيراد كل حاجات الشعير العلفي والذرة الصفراء في عام 2014، والتي بلغت: أي تأمين قرابة 800 ألف طن شعير، و 800 ألف طن ذرة صفراء، وتكلفة هذه الكميات وفق أعلى الأسعار العالمية تبلغ 21 مليار ل.س للشعير، و62 مليار ل.س للذرة الصفراء، والمجموع 83 مليار ل.س، أي 386 مليون دولار، إذا وزعت بكاملها حكومياً ومدعومة بمقدار 50%، فإن التكلفة تبلغ: 193 مليون دولار.
ولو تم استخدام 8% فقط من تمويل المستوردات في 2014 لاستيراد المواد العلفية الضرورية وتوزيعها مدعومة، لم تكن أسعار اللحوم لترتفع، والثروة الحيوانية لتتراجع كما تراجعت بالشكل الحالي (تشير التقديرات إلى تراجعها إلى النصف) الذي تعتمد فيه على العلف المستورد والمتغير، مع تغيرات سعر الصرف في السوق السوداء!!.
العودة لدعم كامل المحروقات بالنصف
تمويل المستوردات اللازمة لعملية الإنتاج، وتتنوع هذه المستلزمات، إلا أنها يجب أن تتمحور، حول مستلزمات عملية إنتاج بدائل السلع الغذائية المستوردة والأساسية الأخرى المستوردة، مثل: مستلزمات إنتاج الأدوية، والألبسة، ومواد البناء وغيرها..
لتخفف من عمليات استيراد المواد الغذائية، إلا أن هذه العملية تصبح بلا جدوى طالما أن أسعار الوقود محررة، أي غير مدعومة!
لذلك فإن المادة الأولى المستوردة، والتي من المفترض أن تعود مدعومة هي المحروقات (مازوت، غاز، فيول، بنزين)، والتي كانت تكاليف استيرادها في عام 2014 تبلغ 380 مليار ل.س تقريباً، فإن إعادة دعمها بنسبة 50%، تؤدي إلى تكلفة 190 مليار ل.س أي حوالي: 883 مليون دولار بسعر صرف 215 ل.س/$.
أي أن استخدام 35% من مبلغ تمويل مستوردات التجار في عام 2014، لإعادة دعم المحروقات بنسبة 50%، كانت ستسمح بتحفيز الإنتاج، وتوفير كلفه أفضل من أي عملية دعم أخرى.
دعم مباشر للصناعة الوطنية
إن توظيف باقي العملية أي حوالي 13% من قيمة تمويل المستوردات، وهو 325 مليون دولار، أي حوالي 70 مليار ليرة سورية، من الممكن أن يدعم الصناعة الوطنية بشكل مباشر فيها وهو ما يضمن تشغيل العديد من المنشآت المتوقفة.
مليارات الشعب تسيل لعاب كبار التجار!
طرح رئيس اتحاد غرف التجارة السورية، السيد غسان قلاع موضوع تمويل المستوردات من الأموال السورية المودعة في المصارف اللبنانية، وفق ما تناقلته عنه وسائل الإعلام. غامزاً لجهة قيام المصرف المركزي تمويل بعض التجار للاستيراد دوناً عن غيرهم. ووفقاً للقلاع فإن الأموال المودعة في تلك المصارف تبلغ 18 مليار دولار وهي كفيلة لتسهيل الاستيراد.
في سياق موازٍ صرح أحد كبار التجار، على أن على الحكومة (تقلد التجار الأوسمة، بدل تضييق الخناق عليهم في مستورداتهم، وذلك لتجاوزهم العقوبات الاقتصادية الخارجية المفروضة على سورية، وتوفيرهم مستلزمات معيشة المواطن في ظل الأزمة الخانقة التي تعيشها)!. كما طالب تجار دمشق بمزيد من تحرير الأسعار!!
لم يطرح كبير التجار في سورية مثلاً: العمل على استثمار هذه الأموال في قطاعات الإنتاج، للخلاص من الاستيراد وعدم تبذير الدولار، بل طرح أمراً يتوافق مع مصالح التجار، الذي يرى فيهم زميله أبطال معركة حقيقية!
يبدو أن السياسات الحكومية، التي منحت التجار امتيازات هامة في ظل الأزمة، وقبلها، تغريهم بطلب المزيد، متناسين أن هذه الأموال التي جُمعت وكُدّست في المصارف، هي من عرق السوريين، وإن التجربة الاقتصادية السابقة والمسؤولية الوطنية تحتمان ضرورة الحديث عن كيفية استثمار هذه الموارد، بالشكل الأمثل، لتلبي حاجات الناس المحاصرين لا هدرها والتربح منها، لصالح أصحاب المليارات.