سعر صرف الليرة بين ثلاث فرضيات

سعر صرف الليرة بين ثلاث فرضيات

يحمل المصرف المركزي الحكومة، مسؤولية تدهور الليرة الأخير بشكل غير مباشر، وذلك عندما يتهم تجار المستوردات بالمضاربة المباشرة على الليرة، أو حين يرى في إجازات الاستيراد الجديدة المتعلقة بالمازوت وغيرها ضغطاً كبيراً في الطلب على الدولار ما يرفع سعره. 

ومع أن الحكومة تقول أن مضاربي السوق السوداء وغيرهم من تجار الأزمات (مجهولي الهوية بالنسبة للحكومة) هم السبب، وتردف كعادتها أن الحصار وتراجع الإنتاج هما على رأس الأسباب، لكن هذا تراشق المسؤوليات يخفي تنسيقاً ما. 

فرضية تراجع الإنتاج

لا شك أن تراجع الإنتاج الحاصل في الاقتصاد السوري وتباينه مع كم النقود الموجود في الاقتصاد هو عامل رئيسي، لكن التعلل بهذا السبب ينبغي التوقف عنده. فمع انكماش الناتج إلى حدوده الدنيا في عام 2013 ينبغي أن تكون الليرة وصلت إلى أدنى قيمة لها في ذلك الوقت والذي بلغت فيه الليرة (143) ليرة مقابل الدولار، وفق سعر تدخل المصرف المركزي للأغراض التجارية مع نهاية ذلك العام. وحين تصرّ الحكومة على تأكيد تحسن الإنتاج والتصدير في عام 2014 بعد أن شهد الـ 2013 أسوأ المعدلات، فهي تؤكد من حيث لا تدري أن أهم عوامل انخفاض سعر الصرف بدأ بالتلاشي مطلع عام 2014 عام التحسن الذي تراه الحكومة.

وبالتالي لا يمكن تفسير الانخفاضات الشديدة، التي تعرضت لها الليرة، ومنذ بداية عم 2015 مؤخراً أنها إنعكاس لانكماش الناتج الذي لم يضرب العام الفائت، وفق ما توحي به الحكومة. طبعاً لا نستطيع أن نحلل بدقة بناءً على تصريحات  الحكومة خاصة أنها لا تنشر أرقاماً علنية حتى اللحظة، ولكن ولو اتخذنا فرضيات أخرى تقول بانكماش الناتج، فلن ينعكس ذلك على الليرة بالانخفاض الشديد كما حدث منذ بداية هذا العام. 

وهنا سنتوقف عند فرضية استمرار الانكماش، مستندين إلى ما أورده تقرير المركز السوري لبحوث السياسات والدراسات والذي تحدث عن انكماش الناتج في عام 2014 عما قبله. إن ذلك غير كافٍ لتفسير تدهور الليرة في هذا العام، فمعدل الانكماش في عام 2014 بلغ 10% عما سبقه بينما بلغ في عام 2013 حدود 37%، وهو ما يعزز فكرة أن الانخفاض الأكبر لليرة ينبغي أن يكون في ذلك العام، أو ما تبعه بقليل أي عند بدايات 2014. وهذا ما يجعلنا نستنتج أن التقلبات الحالية، ترتبط بشيء آخر قد تكون المضاربات الناتجة عن سوق السوداء من جهة والأسواق غير المسيطر عليها من الحكومة داخل البلاد أو خارجها. فهل المضاربات كافية لتفسير كل ذلك التراجع؟!

فرضية المضاربات

قد يرى البعض أنه لا يكفي إثبات الحديث عن توقف أو إنخفاض التدهور للتثبت من أن قيمة الليرة بلغت أدنى مستوياتها، فكمية النقود التي ضخها المركزي في الاقتصاد، واختلال توازنها مع كم الإنتاج يسهم أيضاً في انخفاض قيمة الليرة. ويضاف إلى هذا العامل أنه لا يمكن معرفة كميات الليرة التي تُستبدل بالدولار في الأماكن الخارجة عن سيطرة الحكومة، أو في الأسواق المجاورة، وإن كل ذلك يزيد بلا شك من تدهور الليرة.

وبكل الأحوال سواء زادت كميات الليرة أم لا، فهذا الأمر لا تزال إمكانية التحكم به بيد المصرف المركزي والحكومة، اللذان يستطيعان أن يحسما أمر المضاربات بقرار واحد، فيما لو حصرا سوق الصرافة بيد الدولة وحدها، وإن حديث المركزي عن تجار المستوردات وإن غدا صحيحاً، إلا أنه تم بالتنسيق وبعلم الحكومة والمركزي وشركات الصرافة وكبار الرساميل والتجار التي تطلب الدولار باستمرار. وهو ما يعني أن فرضية المضاربات فيما لو صحت فهي تتم تحت مرأى الجهات المعنية وبالتالي بإشرافها إلى حد بعيد.

يفسر البعض أن المضاربات الأخيرة كانت ردة فعل السوق على الانقطاع الطويل نسبياً، لتدخلات المركزي في السوق، خلال الأشهر الأربعة الماضية وهو ما يوحي بأن المركزي مطمئن لاستقرار الليرة، أو أنه ترك سياسات التدخل ببيع المزادات، أو أنه لم يعد قادراً على التدخل. ولكن مع عودة التدخل الذي أعلنه المركزي مؤخراً، وبطاقة أكبر، تسقط هذه الفرضية، فمن غير المنطقي أن يستجيب المركزي كل مرة لطلبات المضاربين بالعودة للضخ إلا إذا كان يرى في ذلك مصلحة ما، لشريحة معينة في الاقتصاد السوري -(بالتأكيد ليست المواطن)- قد يكون على رأسها هوامير المال في السوق السوداء، بائعي الدولار وطلابه من كبار مهربي الأرباح إلى الخارج. ولكن ذلك أيضاً تفسير جزئي، فالتدخل الأخير للمركزي يوحي بشيء آخر إضافة إلى كل ذلك.

فرضية سعر الصرف الموائم للتصدير

إن ترك السوق على اضطرابها دون التدخل، لم يكن بهدف التوقف عن هدر دولارت المركزي بلا طائل، وهو ما يثبته عودة المركزي من جديد للتدخل وبكميات أكبر، ولتشمل حتى مستلزمات الإنتاج على حد زعمه، بل كان للتحول من سعر التدخل السابق الذي تشير نشرات المركزي إلى أنه عند (214) يرى الدولار لأغراض التدخل التجاري و(228) ليرة لشركات الصرافة بتاريخ 31/3/2015 إلى سعر (257) ليرة الذي أعلنه المركزي للتدخل، بعد اجتماعه مع ممثلي شركات الصرافة. أي أن سعر التدخل قفز بقرار واحد من المصرف المركزي بمعدل 13% عن سعر شركات الصرافة، وبمعدل 20% عن سعر التدخل التجاري، في يوم واحد وبقرار رسمي.

لقد كان هذا الانتقال الكبير بسعر الصرف لأغراض التدخل بقرار رسمي بعد اجتماع المركزي مع الحكومة والصناعيين وكبار الصيارفة، وهو ما يوحي أن سعر (257) الذي قد يكون مؤقتاً على الغالب تمت دراسته بعناية أو بالحد الأدنى تم التوافق عليه آنياً إلى حين التوافق على غيره  أو تثبيته

السياسات الجديدة

إن رفع السعر الرسمي إلى هذا الحد يدل على أن الحكومة ومن تمثلهم كانوا يستهدفون سعر صرف محدد يوائم رغبات تجار الصرافة من جهة وأسعار الصادرات من جهة أخرى، فالقاعدة التي تستند إليها سياسات الصاردات هي أن (الصادرات السورية ستزداد تنافسيتها في الأسواق المجاروة كلما انخفض سعر الصرف). وإن ذلك يعني أن الحكومة التي تبنت سياسات التصدير، أخذت على عاتقها تخفيض سعر الصرف بالتدريج وإن بشكل غير معلن، وقد خدمها المصرف المركزي بسياساتها التي تغذي المضاربات، ما أوصل سعر الصرف بنهاية المطاف إلى مستوى قياسي على صعيد السعر الرسمي.