عام 2014.. استمرار «الأزمة الرأسمالية» والنظام المالي-النقدي الدولي على المحك!
أنهى عام 2014 أيامه الأخيرة على وقع ما بات يعرف بـ«حرب النفط» التي مثلت إحدى درجات الصراع الدولي في ساحته الاقتصادية، حيث بات خيار المواجهة على الصعيد الاقتصادي الأداة الامبريالية الأهم في هذا العام للتأثير على منع تبلور توازن دولي جديد يؤثر على مواقع الغرب الامبريالي في الساحة الدولية.
ومما لا شك فيها أن تغيرات الميزان الدولي الناتجة عن استمرار تعمق الأزمة الرأسمالية العالمية المندلعة في 2008 وتبلورها في ساحات وأشكال شتى، ستتصاعد أكثر فأكثر، إلا أن العام 2014 شهد عدة نقلات نوعية إن على صعيد الأزمة الرأسمالية أو على صعيد آثارها الكبرى والتي فتحت باب المواجهة الاقتصادية على مصراعيه.
بداية دعونا نتوقف عند ماخلص إليه صندوق النقد الدولي، أحد أكبر مؤسسات النظام الرأسمالي العالمي، في تقييمه للأزمة. حيث خلص تقريره السنوي عن «آفاق الاقتصاد العالمي» لعام 2014 بأنه: «رغم كل النكسات لايزال التعافي العالمي غير المتوازن مستمراً، ولأسباب أهمها زيادة ضعف النشاط العالمي عن المستوى المتوقع في النصف الأول من عام 2014، وتم تخفيض تنبؤات نمو الاقتصاد العالمي إلى 3,3% لهذا العام بانخفاض قدره 0,4% عما كان متوقعاً في أبريل 2014 من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي». (من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي عام 2014 لصندوق النقد الدولي)..
أرقام النمو بين التفاؤل والواقع..هل من تعافٍ؟!
أي أن التقرير رصد في ذاك العام نمواً في الناتج الإجمالي العالمي وإن بأقل من التقديرات السابقة إلا أنه يرى في هذا النمو مؤشراً للتعافي، وتعليقاً على ما أسمته المنظمات الدولية «التعافي غير المتوازن» نورد رأي الباحث الأمريكي جوزيف ستيغلتس الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، والذي استبق التقرير بإعرابه عن عدم تفاؤله بهذه الأرقام وإدعائاتها، ففي مقالته «الركود عمداً» في شهر شباط من العام نفسه يستبق كبير اقتصاديي البنك الدولي، تقارير النمو والتعافي في عام 2014 ليقول:« من المرجح أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي على جانبي الأطلسي بسرعة أكبر كثيراً هذا العام مقارنة بعام 2013. ولكن قبل أن يحتفل الزعماء الذين احتضنوا سياسات التقشف ويسارعوا إلى تهنئة أنفسهم فيتعين عليهم أن يدرسوا أين نحن الآن وأن ينظروا في الضرر الذي يكاد يكون من المستحيل إصلاحه نتيجة لهذه السياسات... هذه الأرقام لا تنبئنا بالقصة الكاملة عن مدى السوء الذي آلت إليه الأمور، لأن الناتج المحلي الإجمالي ليس مقياساً جيداً للنجاح.... ومن الواضح أن المشاكل الأساسية التي أشرت إليها سابقاً قد تتفاقم سوءاً. والتفاوت بين الناس يقود إلى ضعف الطلب؛ واتساع فجوة التفاوت يزيد من ضعف الطلب؛ وفي أغلب البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، كانت الأزمة سبباً في اتساع فجوة التفاوت»..
الثروة العالمية: 85 شخصاً يعادلون ملياري ونصف إنسان!
في سياق الأزمة ذاتها خلص التقرير السنوي عن الثروة العالمية الذي أصدره بنك «كريدي سويس» العالمي في أكتوبر تشرين الأول من عام 2014، إلى أن مستوى التفاوت في توزيع الثروة يتصاعد، وأن: «أغنى 1% من سكان العالم يحوزون 48,2% بينما كانوا يحوزون 46% من الثروة العام الماضي. فيما يحوز نصف البشرية الأفقر على 1% من الثروة فقط» ويؤكد التقرير على أنه ومنذ أزمة عام 2008 يزداد التفاوت في توزيع الثروة خاصة في البلدان النامية. قبل ذلك التقرير كان تقرير منظمة أوكسفام الدولية يشير إلى أن أغنى 85 شخصاً في العالم باتوا يستحوذون على ثروات تعادل حصة نصف سكان الأرض الأفقر البالغ عددهم أكثر من مليارين ونصف إنسان في بدايات عام 2014.
5 ملايين إنسان إضافي
إلى «جيش العاطلين»
أما بما يخص العاطلين عن العمل على مستوى العالم فقد أظهر مؤشر منظمة العمل الدولية ارتفاعاً طفيفاً في معدلات البطالة لعام 2014 عن ماسبقه حيث أن معدلات البطالة في عام 2014 تتراوح بين (3,8-30,9)% بينما كانت تترواح بين (2,9-30,9)% في عام 2013 وذلك بناءً على الخريطة التفاعلية في موقع الانترنت الخاص بمنظمة العمل الدولية. كما أورد تقرير منظمة العمل الدولية الصادر في بدايات عام 2014 أن عدد العاطلين عن العمل زاد 5 ملايين إنسان في عام 2013عما قبله، كما قال التقرير إن فجوة البطالة في ازدياد وإن عدد العاطلين عن العمل سيبلغ 215 مليون إنسان في عام 2018 والبالغ 202 مليون إنسان في عام 2013 فيمالو استمرت هذه الفجوة بالتزايد بهذا التسارع.
يعد الفقر أحد أخطر المؤشرات الناتجة عن تلك الأزمة والذي ازاداد اتساعاً أيضاً، فأعلن بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة في تشرين الأول من عام 2014:«أن أكثر من 1.2 مليار شخص يعيشون على أقل من 1.25دولار في اليوم كما يعيش 2.4 مليار نسمة على أقل من 2 دولارين في اليوم»..
على صعيد متصل تجلت الأزمة الرأسمالية في عام 2014 بمؤشرات جديدة تدل على تصدع المعسكر الرأسمالي كمنظومة يهيمن فيها المركز بشكل مستمر على أطرافه بناء على التقسيم الدولي للعمل. لقد انعكس هذا التصدع على سبيل المثال بفشل الولايات المتحدة واليابان في تحقيق اختراق في محادثاتهما بشأن اتفاقية الشراكة عبر الباسيفيك في نيسان من ذلك العام. كما زادت حدة التوتر بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على خلفية العقوبات الاقتصادية على روسيا وماجره ذلك من خسائر على الأوروبيين، ومما أدى إلى تراجع النمو في الاقتصاد الألماني لأول مرة خلال الأزمة. كما فشلت الولايات المتحدة في تسويق مشروعها التجاري الكبير «الشراكة عبر المحيط الهادي» وذلك في اجتماع قمة آبيك الذي خلص إلى تبني المجتمعين لاتفاقية استراتيجية مع الصين متمثلة بمشروع منطقة التجارة الحرة في آسيا والمحيط الهادي.
الاقتصاد الأمريكي
أقل بنسبة 15% مما قبل الأزمة!
وعلى صعيد التعافي في الولايات المتحدة كبرى المراكز الرأسمالية، رأت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أن نسبة مستويات الاستثمار من الناتج حالياً هي فعلياً أقل بـ 3,26% من المستويات التي كان عليها في عام 2007 وفقاً لـ«OECD» (انظر التقرير الاقتصادي لـ OECD عام 2014). وفي سياق موازٍ يقول ستغتلس في المقالة ذاتها: «لا يزال اقتصاد الولايات المتحدة أقل بنسبة 15% تقريباً عما كان ليصبح عليه لو استمر النمو على مساره المعتدل قبل الأزمة... وإن متوسط الدخل الحقيقي في الولايات المتحدة الآن أدنى من مستواه في عام 1989، أي قبل ربع قرن من الزمان؛ ومتوسط دخل العمال الذكور بدوام كامل الآن أدنى من مستواه قبل أربعين عاماً».
أوروبا انخفاض النمو
ومخاطر جيوسياسية
هذا وقد كشفت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، عن تباطؤ في نمو الاقتصاديات العالمية الكبرى وخصوصاً في منطقة اليورو، على خلفية المخاطر الجيوسياسية والمالية الكبيرة. وقامت المنظمة بتخفيض توقعاتها لنمو إجمالي الناتج الداخلي في منطقة اليورو في عام 2014 بـ 0.4 % مقارنة بتوقعاتها الأخيرة، ليصل إلى 0.8 %، وخفضت من توقعاتها لعام 2015 لتصبح 1.1 % وفقاً لتوقعات شهر أيار الماضي. وشددت المنظمة على المخاطر التي تلقي بثقلها على هذا التحسن الاقتصادي العالمي غير المتساوي المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بالأزمة في أوكرانيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى النزعات الانفصالية لدى عدد من الأقاليم في الاتحاد الأوروبي.
الآفاق المظلمة
والمواجهات المفتوحة!
لقد رسم صندوق النقد الدولي سيناريو التفاؤل بالأفق الاقتصادي في تقريره «آفاق الاقتصاد العالمي» عام 2014 بناءً على مؤشرين اثنين الأول هو: «بقاء المحركات الأساسية الداعمة لتعافي الاقتصاديات المتقدمة» والثاني هو: «حدوث تراجع تدريجي في التوترات الجغرافية السياسية». لكن عام 2014 اختتم على عكس آمال التفاؤلات، حيث انتهى العام بأجيج أزمات كبرى تمثل أحد أخطرها في ما بات يعرف بـ«حرب النفط» والتي مثلت هجوماً أمريكيا واسعاً ليس على الروس والإيرانيين والفنزويليين وحسب، بل على كامل منتجي النفط، والذي سبقها جملة من العقوبات المتبادلة بين روسيا من جهة وأوروبا والولايات المتحدة في الجهة المقابلة. كما اشتعلت خلال العام نفسه «حرب العملات الدولية» التي مثلت الذراع الأمريكية في (لي يد) الاقتصادات الصاعدة المتعطشة للسيولة. وأفضى كل ذلك إلى زيادة مساعي دول البريكس وحلفائها إلى بلورة بدائل اقتصادية عدة بدءاً بمنظومة البريكس وصندوقها وبنكها المستحدثين في هذا العام، مروراً بتوسيع منظمة شنغهاي وبلورة مشروع طريق الحرير، وتشكيل الاتحاد الأوراسي، وزيادة التبادلات التجارية بالعملات المحلية بعيداً عن الدولار، وهو ما يضع الدولار والنظام المالي والنقدي العالمي على المحك في الأعوام القادمة والذي ستسعى قاسيون إلى استكمال رصده في الأعداد القادمة..
مراجعة نقدية في العام:
«الرأسمالية لا تصحح نفسها»
أمام كل تلك المؤشرات وقف العديد من الخبراء الدوليين في الاقتصاد لإعادة النظر في مقولات أساسية للعقيدة الرأسمالية حيث وجه روبرت سكيدلسكي، الأستاذ الفخري للاقتصاد السياسي في جامعة وورويك Warwick وعضو مجلس اللوردات البريطاني، نقداً لاذعاً للأيدولوجية النيوليبرالية المهيمنة على علوم الاقتصاد مرتئياً: «أن التيار الاقتصادي السائد هو في واقع الأمر إيديولوجية السوق الحرة... إن الاقتصاد السائد عبارة عن تقطير هزيل إلى حد يدعو للرثاء للحكمة التاريخية حول الموضوعات التي يتناولها.. ومن المؤكد أن ما يتلقاه الطلاب اليوم من علم لا يستحق مكانته المهيبة في الفكر الاجتماعي». كما أضاف ستغلتس في مقالته «الركود عمداً» طعنة أخرى في إحدى أهم مقولات قوى السوق الرأسمالية جازماً بأن «الأسواق لا تصحح نفسها»!!