في الاقتصاد السياسي لـ(حرب النفط)..

في الاقتصاد السياسي لـ(حرب النفط)..

مع استمرار تراجع قيمة الروبل الروسي الناتج عن "حرب النفط" ركز المحللون قراءاتهم على الآثار التي ستترتب على الاقتصاد الروسي موحين بأنه "الخاسر الأكبر" في هذه المعركة. إلا أن التحليل العميق لأبعاد هذه "الحرب"، من الأسباب إلى النتائج إلى السياق التاريخي لما يجري، يوصل لاشك إلى نتائج مغايرة. ولذلك علينا أن نوضح العديد من الأفكار لقراءة مايجري على الساحة الدولية من جوانبه الاقتصادية، ثم سنتبين الانعكاسات الممكنة ليس فقط على اقتصاد روسيا بل على العالم بأسره، وهو ماستسلط صحيفة قاسيون الضوء عليه بشكل أوسع في الأسابيع المقبلة.

إن ما بات يعرف بـ"حرب النفط" والعقوبات الغربية المرافقة لها، على روسيا، هي جزئيات وتفاصيل لاستمرار تبلور التوازن الدولي الجديد الناتج أساساً عن اندلاع الأزمة الرأسمالية عام 2008 وارهاصاتها المستمرة واحتمالات دخولها أبعاداً جديدة. وما الحديث عن انتعاش ما للنمو في الولايات المتحدة أو ركود في روسيا والاتحاد الأوروبي إلا حديث مؤقت وآني وسطحي، فالصراع يزداد احتداماً وقد وصل إلى أعصاب الإنتاج الرأسمالي (الطاقة والمال) المترافق مع حالة من العسكرة المتصاعدة في كافة بقاع العالم.
استراتيجية "إدارة الأزمة"
أولاً- لا يمكن رؤية "حرب النفط" إلا كأحد تجليات الأزمة الاقتصادية العالمية والتي كانت شرارتها انفجار فقاعة المال عام 2008، والتي على أساسها دخلت كل القوى الرأسمالية أزمة عميقة مستمرة تجاهد اليوم مراكزها لأجل الخروج منها. وتمثل عمليات كبح المنافسين الجدد في نفس المنظومة إحدى أدوات تخفيف الانعكاسات الدراماتيكية للأزمة، ومن هنا تأتي هذه الحرب ضرورة لخلق هامش مناورة أوسع للمراكز الغربية التقليدية على حساب القوى "الصاعدة".
ثانياً- جاءت حرب النفط كجزء من خطة أوسع لقطع الطريق على احتمال تبلور قطب جيوسياسي وفضاء اقتصادي مناهض للامبريالية الغربية وهيمنة المركز الأمريكي. ووفقاً لبريجنسكي في مقالته "جيواستراتيجية من أجل أوراسيا"1:
"أوراسيا هي القارة العملاقة المحورية في العالم، والقوة التي ستسيطر عليها سيكون لها تأثير حاسم على اثنين من المناطق الثلاث الأكثر إنتاجية في العالم من الناحية الإقتصادية وهما أوروبا الغربية وشرق آسيا. بلمحة سريعة على الخريطة يتبين أن البلد المهيمن في آوراسيا سوف يسيطر بشكل أوتوماتيكي تقريباً على الشرق الأوسط وإفريقيا. وباعتبار آوراسيا رقعة الشطرنج الجيوسياسية الحاسمة، فإنه لم يعد كافياً ومناسباً صياغة سياسة لأوروبا وأخرى لآسيا. مايحدث في مسألة توزيع القوة على الكتلة القارية الأوراسية سيكون له أهمية حاسمة على أسبقية أميركا العالمية وإرثها التاريخي".
لقد بنت الولايات المتحدة استراتيجيتها في التجارة الدولية على ضرورة إحداث خرق ما في آسيا أيضاً، وعلى ذلك جاء الاجتماع الأخير لمنتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي "آبيك" صادماً بالنسبة لها، حيث اعتمد المجتمعون استراتيجية "طريق الحرير الصينية" التي تربط الصين بآسيا وأوروبا، فيما لم يوافق المجتمعون على استراتيجية الولايات المتحدة المتمثلة بـ"الشراكة عبر المحيط الهادي"2 ، وهو مايعني احتدام الصراع المترافق أيضاً مع إعلان روسيا تشكيل اتحاد اقتصادي جديد "الاتحاد الأوراسي" (شمل بيلاروسيا وكازاخستان ويجري الحديث عن توسيعه) والمتوازي مع جملة من الإجراءات تخفف من هيمنة الدولار على التجارة البينية لدول البريكس وحلفائهم.
العقوبات الخارجية للهجمات من الداخل!
ثالثاً- لا تشمل "حرب النفط" اليوم ضد روسيا تخفيض سعر النفط وحسب، بل تشمل شن العديد من الهجمات وفي كافة القطاعات في الداخل الروسي وعلى رأسها قطاع المال، ناهيك عن العقوبات الاقتصادية التي شنها الاتحاد الأوروبي وهي التي تنعكس سلباُ على الأوروبيين بخسارات عشرات المليارات. ويرى العديد من الخبراء أن هذه الحرب تترافق مع أنشطة كبيرة لمافيات المال والطاقة والسلاح في روسيا بالتوازي مع نشاط المنظمات غير الحكومية (NGO’s) التابعة للنفوذ الغربي. ناهيك عن أن العقوبات الأوروبية على الاقتصاد الروسي توخت إسداء ضربات نوعية للاقتصاد الروسي، حيث ركزت حزمة العقوبات في آذار 2014 على كبرى الشركات العاملة في أهم القطاعات الاقتصادية كالطاقة والسلاح والتكنولجيا والمال، وشملت العقوبات منع الشركات والمواطنين الأوروبيين من تداول أصول أهم الشركات في روسيا أو تقديم أي خدمات خاصة لها كالسمسرة أو الإقراض وفقاً لما يلي:
1- منع تداول أصول أكبر 5 مصارف مملوكة للدولة الروسية مع فرعها ووكلائها في الاتحاد الأوروبي.
2- منع تداول أصول أكبر ثلاث شركات للطاقة الروسية وهي (غازبروم- لوك أويل- روزنفط).
3- منع تداول أصول أكبر ثلاث شركات للدفاع الروسية وهي (Almaz-Antey- United Aircraft Corporation- Tactical Missiles Corporation).
لقد شملت العقوبات أيضاً منع تصدير المعدات والتكنولوجيا إلى الصناعات العسكرية وصناعة الطاقة وتحديداً في مجالي التنقيب والاستخراج وحتى الشركات التكنولوجية، وهو مايوحي بأن الغرب أراد للعقوبات أن تكون مؤثرة على مستقبل روسيا الاقتصادي بشكل حاسم.
رابعاً- لن تكون آثار هذه الحرب خاصة بروسيا فقط بل ستشمل كل العالم، فالنفط هو مدخل الطاقة الرئيسي للإنتاج الرأسمالي، وانخفاض أسعاره سيؤثر وبشكل متناقض على كل مراكز الإنتاج، فمنتجو النفط على اختلاف مواقفهم السياسية هم أبرز الخاسرين آنياً بما فيهم دول الخليج والولايات المتحدة، والمستوردون سيكونون من الرابحين في المدى القريب لاشك، لكن معادلة انخفاض سعر النفط لا تقف عند حدود الخسائر والمكاسب المباشرة، فسعر النفط المتأرجح يبطن تأرجح معدلات الربح لأحد أهم قطاعات الانتاج الرأسمالي المترابط بشكل كبير مع الشركات الأخرى وبورصات العالم وأسهمها التي تتأرجح.
وعلى ذلك لا يكفي على سبيل المثال حصر الحديث عن الأخطار الناجمة عن "الحرب" على الخسائر المباشرة لصناعة النفط الأمريكية وحسب، بل ينبغي لحظ خسائرها الاستراتيجية، حيث ستنخفض ربحيتها وهو مايترافق مع ارتفاع التكاليف الرأسمالية لهذه الصناعة بسبب رفع أسعار الفائدة من قبل المصرف الفيدرالي الأمريكي مؤخراً. كما أصبحت البورصات الأمريكية تحت التهديد وهو ماتحدثت عنه مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية3:"هناك توقعات مخيفة بصراحة للأسواق المالية العالمية. حيث تم اعتبار قطاع الطاقة آمناً نسبياً للاستثمار، وتشكل سندات الطاقة 16% تقريباً من سوق السندات ذات العائد المرتفع بحوالي 1.3 تريليون دولار... ولكن إذا انخفضت أسعار النفط أكثر من ذلك، فإن معظم الشركات التي تعاني ضائقة مالية ومديونية قد تضطر إلى الإفلاس أو إعادة الهيكلة. ماسيؤدي إلى موجة من التخلف عن السداد ... وخلق العدوى خارج قطاع الطاقة".
إن كل ماسبق هو استعراض عاجل للحديث عن "حرب النفط" وسياق تحليلها السياسي-الاقتصادي بعيداً عن السجال الإعلامي واستعجال الثمار السياسية لهذه "الحرب"، وسيتم لاحقاً الإضاءة على الآثار الاقتصادية وارتداداتها على العديد من الدول الأخرى بشكل موسع. 

هوامش:
1-مقالة قديمة لزبيغنيو بريجنسيكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس جيمي كارتر. ستقوم قاسيون بنشر عدة مقالات حول أحاديثه الاستراتيجية في أعدادها القادمة).
2-راجع مقالة "استراتيجية «طريق الحرير» الصينية.. الرد الفعلي على «الشراكة عبر المحيط الهادئ» المنشورة في جريدة قاسيون العدد (682) مترجمة عن مجلة FOREIGN POLICY.
3-مقالة الجانب الفوضوي من انهيار أسعار النفط:" the messy side of failing oil price" للكاتب إدوراد هاريسون 10/12/2014-مجلة فورين بوليسي.