المصارف السورية.. هيمنة المال الأجنبي وحيتان المال في ظل الأزمة!!
في العام الماضي وإبان الأزمة المالية التي عصفت بقبرص والتي هددتها بالإفلاس كسرت الدولة القبرصية أحد أهم أسس الاقتصاد الليبرالي، فقامت بمنع تحويل الأموال المودعة في المصارف القبرصية للخارج كما وضعت الدولة يدها على كل وديعة تتجاوز الـ 100 ألف يورو، أي أن الحكومة رفضت حتى الاقتراض من المصارف الخاصة ووضعت يدها بشكل مباشر على هذه الأموال.
ذكرت هذه الإجراءات الراديكالية العالم ببعض السياسات الاشتراكية التي تُفزع الليبراليين (رغم أن سياسات التأميم ليست حكراً على النماذج الاشتراكية تاريخياً)، إلا أن الغرب الليبرالي الذي دعم هذه الإجراءات والحكومة القبرصية اعتبروا أن هذه الإجراءات الاستثنائية لابد منها للحفاظ على الاقتصاد القبرصي، رغم أنها تضرب بعرض الحائط مصالح كبار المودعين ومالكي المصارف على حد سواء ولو مؤقتاً.
بالعودة إلى الوضع السوري الذي يعيش أكبر أزمة سياسية-اقتصادية في تاريخه نجد أن الإجراءات الحكومية على عكس المثال القبرصي، لازالت تأخذ مصالح كبار رؤوس الأموال حتى لو تناقضت مع المصلحة الوطنية العليا.
بعد هروب الودائع السورية..
انتعاش في ظل الأزمة؟!
ما نشرته الصحافة السورية وبعض المواقع الالكترونية منذ مدة من أرقام عن القطاع المصرفي الخاص السوري خلال الأزمة مؤشر واضح على كل ذلك، حيث زادت الأموال المودعة في المصارف الخاصة بين عامي 2012-2013 بنسبة 28.6% وبلغت (437.3) مليار ل.س، وحققت المصارف الخاصة صافي ربح في عام 2013 بمبلغ (15.4) مليار ل.س، وبالمقابل كان هناك تأجيل وعدم سداد للضرائب المستحقة على الدخل المتحقق من أصحاب تلك الأرباح، حيث إن مجموع الضرائب المدفوعة في عام 2013 هي أقل من نصف الضرائب المؤجلة والمتراكمة.
-من صحيح القول إن زيادة الودائع حالة إيجابية في ظروف الأزمة، ولكن الفائدة من كل ذلك تتوقف على كيفية التصرف بهذه الوادئع في لحظة الأزمة، ويجدر الذكر أن الودائع في المصارف السورية بلغت عشية الأزمة (1200) مليار ليرة سورية خرج نصفها تقريباً بعد عام واحد على الأزمة، مما دل على التراخي الحكومي في التعاطي مع هذه القضية ومحاباة كبار المودعين الذين سمحت لهم السياسيات الليبرالية (سياسة تحرير ميزان المدفوعات) إخراج ودائعهم دون رقيب أو حسيب. إذاً فالزيادة الحالية بحجم الودائع التي يتغنى بها أصحاب المصارف والتي يعتبرها المسؤولون الحكوميون مؤشراً حول صحة الاقتصاد من الممكن أن تخرج خارج الاقتصاد السوري دون أي فائدة تذكر أو أنها قد تنمو لمصلحة الجهات الخارجية المالكة وكبار المالكين المحليين الذين يعدون على أصابع اليد.
23 شخصاً فقط يملكون الحصة الأكبر!!
يتذرع المسؤولون الحكوميون في كل إجراءات بمصلحة المواطن والاقتصاد الوطني، حماية المصارف الخاصة وعدم المساس بمصلحتها خلال الأزمة مُبرّر وفق هذه الذريعة. وبالتدقيق أكثر نجد أن ما نشر حول كبار المالكين للمصارف الخاصة السورية يحكي غير ذلك، فبالمقارنة مع الإجراءات القبرصية نجد أن مسؤولونا فضلوا المصلحة الخاصة على العامة، حيث تتمركز معظم الملكية بأيدي كبار الشركات الخاصة الأجنبية والعربية بمعظمها، كما أن جزءاً واسعاً من ملاّك رؤوس الأموال في المصارف هم رجال أعمال عددهم لايتجاوز الـ 23 شخصاً!!.
يقدر عدد أسهم رأس المال في المصارف الخاصة السورية بـ (910) مليون سهم تقريباً وتتوزع ملكيتها على نوعين من الملكية: ملكية الأفراد وملكية الشخصيات الاعتبارية والشركات، وتتكون الشخصيات الاعتبارية من جهات حكومية مثل (المؤسسة العامة للتأمينات الإجتماعية) أو أهلية سورية كـ(نقابة المهندسين) وأخرى أجنبية كـ(صندوق أوبك للتنمية) أو عربية كـ(بنك قطر الوطني)، (الجدول رقم ١)
من خلال الجدول السابق نلاحظ الحصة العالية للأفراد وبالتدقيق في هذه الحصة البالغة نجد مؤشرات هامة عن درجة تمركز واضحة لرأس المال في القطاع الخاص المصرفي، مما يعني أن أي أرباح وانتعاش بالقطاع الخاص المصرفي يعود على فئات ضيقة لاتستفيد منها الحكومة بإيرادات جدية، فهي غالباً تطالها الإعفاءات الضريبية تحت ذريعة الأزمة ناهيك عن تفشي التهرب الضريبي وفيما يلي استعراض لتوزع الملكية بين أغنى الأفراد، (الجدول رقم ٢)
أي أن (43) شخصاً الأغنى، حسب المعلومات المتوفرة عن الشرائح والذين لا يشكل عددهم شيئاً يذكر من المجموع الكلي للمستثمرين بالبنوك الخاصة البالغ (34607) شخصاً، يملكون 5% على الأقل من إجمالي عدد الأسهم المكونة لرأسمال البنوك الخاصة.
المال (الخليجي) وحيتان السوق
أما الشركات على اختلاف جنسياتها فتهيمن على غالبية رأس المال بنسبة 57,7% وبالتمحيص في هذه النسبة نجد أن معظمها تعود لشركات خاصة أجنبية وعربية، (الجدول رقم ٣)
أي أن حصة الجهات الأجنبية والعربية في المصارف السورية تبلغ 53,5% تقريباً وهو ما يعني أن الفائدة العظمى من النشاط المصرفي الخاص في سورية يعود لمصلحة جهات أجنبية. كما يلاحظ أن حصة الدول الخليجية تبلغ ما لا يقل عن (13,209) مليار ليرة سورية من رؤوس أموال المصارف الخاصة من أصل رأس المال الكلي للمصارف الخاصة السورية البلاغ (73) مليار ليرة سورية وهو مانسبته 21% من رؤوس أموال المصارف الخاصة السورية. وتبلغ حصة قطر وحدها 10% من رأسمال مصارفنا الخاصة وتتوزع باقي الحصص الخليجية بين الكويت والسعودية والبحرين والإمارات.
وهذا يعني أن الجهات الخليجية التي أسهمت في حصارنا الاقتصادي تستحوذ على 21% تقريباً من رؤوس أموال مصارفنا الخاصة، وباقي الحصص تتوزع بين لبنان والأردن وجهات أخرى، لكن المفارقة هي أن تمتلك جهات أجنبية شاركت في حصار الشعب السوري حصة أعلى من الشركات السورية التي لا تزيد حصتها عن 4% فقط وهو أقل من ربع ما تمتلكه دول الخليج في بنوكنا الخاصة!!.
إن ما تقدم يشير إلى أحد التشوهات الجدية التي تعقد أوضاع الاقتصاد السوري، حيث تهيمن رؤوس أموال خليجية على حصة واسعة من الاقتصاد السوري وتحديداً في مجال المصارف الذي يستنزف ويصدر للخارج عوائد هامة، وتشكل أرباح رؤوس الأموال التي يتم تصديرها للخارج نزيفاً مستمراً للاقتصاد الوطني في الوقت الذي تبحث فيه الحكومة عن موارد لنفقاتها فلا تجد إلا جيوب فقراء السوريين مصدراً لها، فترفع الدعم عن خبزهم ومائهم في الوقت التي تستمر بدعم المصارف وتركها تراكم الأموال دون توظيفها أو استخدامها بشكل يخفف الضغط المالي عن الحكومة وعن المواطن المنهوب.