التخطيط السيئ.. وسوء الإدارة
ستيركوه ميقري ستيركوه ميقري

التخطيط السيئ.. وسوء الإدارة

تحدث النائب الاقتصادي خلال استماع مجلس الشعب لأجوبة الحكومة عن السياسات الاقتصادية، فأكّد أن «الاعتماد على الزراعة فقط كمصدر للدخل في الريف لم يعد ممكناً».

 

ولكن رغم الجفاف الذي أصاب مواسمنا الزراعية الأربعة الأخيرة، فقد بات مؤكداً أن مجموع الاستثمارات الزراعية المراد استثمارها في المجال الزراعي خلال سنوات الخطة الخمسية القادمة كلها لن تتعدى الـ200 مليار ليرة سورية، ولا يشكل هذا المبلغ إلا نسبة 5%  تقريباً من مجموع المبالغ المرصودة للاستثمار في الخطة الحادية عشرة، وهي تشكل تراجعاً عما كان يرصد لتطوير الزراعة، حيث كانت تقارب 15% سنوياً.

لقد تمت هذه التخفيضات من القائمين على رسم الخطة الخمسية، كما تحدث النائب، على أساس أن المطلوب الآن ليس زيادة المساحات المستصلحة والمروية، بل المطلوب هو زيادة الإنتاجية، وذلك باستخدام البذار المعدلة جينياً!!

هناك سؤالان لابد من طرحهما: هل سنستطيع فعلاً أن نحل مشكلة أمننا الغذائي عبر زيادة الإنتاجية باعتماد البذار المعدلة جينيا حتى لو استمر الجفاف على حاله؟ ثم هل كان الجفاف وحده هو السبب الأساسي لنشوء ما يسمى بالمشكلة الزراعية، وتحولنا من بلد مكتف زراعياً وقادر على التصدير، إلى بلد مستورد؟.

السؤال الأول أجابت عليه الأبحاث الزراعية، وخصوصاً الأوربية التي بينت أن البذار المعدلة جينياً لا يمكن إنتاجها محلياً، وإن أنتجت فهي غير قادرة على تأدية الدور الذي عدلت لأجله (زيادة الإنتاجية) باستمرار، أي أن هذه البذار بعد استعمالها لعدد من السنوات تصاب فجأة بأمراض تعجز أمامها الأدوية والأسمدة والمبيدات الزراعية، ذلك أن البذار المعدلة وراثياً لا يمكن تكرار استعمالها أكثر من موسم واحد، وهناك أربعة بلدان للبذار في العالم  تتحكم بالموارد الزراعية العالمية وعلى رأسها أمريكا، وهي تفرض في كل مكان من العالم بذارها المعدلة وراثياً التي تستخدم لمرة واحدة، أي أن على المزارع شراء البذار مجدداً في كل عام، أي أن هناك  احتكاراً لإنتاجها وعدم قابليتها للاستعمال إلا لمرة واحدة.. وما أصاب محاصيل القمح والقطن والشوندر هذا العام، إلا إثبات عملي له.

إن زراعتنا ستقع تحت رحمة البلدان المتحكمة بإنتاج هذه البذار، وستصبح رهينة لديها، كما أن استخدام هذه البذار يؤدي إلى تلوث الغذاء والمحاصيل والمنتجات الغذائية، وسيضر التربة الزراعية، ويؤثر سلباً على صحة المواطنين. وقد نشرت الصحيفة الدولية للعلوم البيولوجية دراسة تؤكد تسبب الأغذية المعدلة وراثيا بتلف واضطرابات في عمل أعضاء الجسم. وتتركز أضرار الذرة المعدلة وراثيا مثلا  على الكلى ومهام الكبد وهما العضوان الرئيسيان في تنقية الغذاء من السموم، ولذلك فإن الدول الأوربية،  بل وعدداً من دول العالم الثالث، بدأت بالتراجع عن زراعة البذار المعدلة جينياً إلى أساليب الزراعة العضوية. لذلك فمخاطر الاعتماد على هذا الأسلوب لزيادة الإنتاجية ليس حلاً، بل إنه سيفاقم المشكلة.

أما الإجابة على السؤال الثاني، فمما لاشك فيه أن شح المياه قضى على الزراعات البعلية، ولكن تكاليف ضخ المياه وارتفاع أسعار المبيدات والبذار والأسمدة  والعلف الحيواني والمحروقات وأجور الأيدي العاملة والمكننة الزراعية، كلها أعباء وتكاليف إضافية تسبب بها المسؤولون عن هذا القطاع الإنتاجي الهام، ما جعل المساحات المزروعة تنحسر وتتقلص وليس العكس، كما أن ما رافق ذلك من فساد كان سبباً رئيسياً لتفاقم المشكلة وأدى إلى أن مئات القرى توقفت فيها الزراعة ونفقت ماشيتها وتحولت لصحراء، ومئات الآلاف هاجروا إلى محافظات أخرى، وثلاثة ملايين ممن بقوا يعانون من فقر مدقع، حيث فقدوا نحو 85% من مواشيهم، و كثير من المزارعين المرحَلين يتحدثون عن الآبار التي تجفّ، وتتحول لمصادر للتلوث..

وهكذا ما على المسؤولين إلا أن يعيدوا التفكير بسلوكهم وتصريحاتهم التي أكثروا منها عن وفرة الإنتاج، ونحن الآن أمام حالة إنتاج متراجع متقهقر، وحسبنا أن نكفي حاجة السوق المحلية كي نصدر الباقي.

ويمكن السؤال أيضا عن الجهود التي بذلها النائب الاقتصادي وفريقه من أجل تنويع مصادر الاقتصاد خلال خمسة سنوات اقتصادية فاشلة؟ ‏وعن  الصناعات الجديدة بعد أن انصبت جل (استثماراته) في القطاعات الريعية؟ إن الإجابة على ذلك لا تقل طرافة عن الأحاديث التي يطلقها النائب عن تحقيق نمو لم يقل عن 5.5% خلال أعوام الخطة العاشرة، ومع ذلك ازدادت نسبة من يعيش عند الحد الأدنى للفقر من 24% إلى 40% تقريباً.

لقد وصلت تكلفة إيجاد فرصة للعمل إلى 25 ملبون ليرة، فما هي الفرص التي يمكن أن تحدثها الـ200 مليار ليرة التي سيجري استثمارها في كامل الخطة الخمسية القادمة؟ فإذا كان النائب فرحا بانجذاب 3 مليار دولار من الاستثمارات العربية  خلال السنوات الأخيرة، يجب ألا ينسى أن سورية صدرت خلال الفترة نفسها 4.5 مليار دولار إلى البلدان العربية!. تُرى ألم يتساءل عن أسباب ذلك؟ إنها بلا شك نفسها تلك الأسباب التي أدت للفشل القائم.. ولذلك فمن أهم المعالجات التي لابد من إطلاقها الآن هي زيادة حجم الاستثمارات إلى الضعف، والعودة عن كل تلك القرارات التي أدت إلى تراجع القطاع الزراعي في مساهمته في الناتج المحلي من 30% إلى 14% تقريباً. ولابد من إيجاد الحلول الناجعة والسريعة لدفع الأيدي العاملة الزراعية المهاجرة للعودة إلى قراها، والبدء بالعمل من جديد، بعقلية جديدة، وسياسة جديدة، من أجل تحسين الواقع الزراعي المزري الذي نقبع فيه الآن.