الاقتصاد الغريق «بقشة» الاستيراد الإنعاشية
كثيراً ما يتحدث بعض المحللين الاقتصاديين عن صمود «أسطوري» للاقتصاد السوري، والذي تصدى لتداعيات الأزمة التي تمر بها البلاد على حد قولهم، فوزير الاقتصاد والتجارة يقول «إن الاقتصاد السوري نجح في تجاوز معظم التحديات التي أوجدتها الأزمة»، ويتخذ من استمرار تقديم الرواتب والمعاشات في أوقاتها المعتادة دون أي تقصير برهاناً على ذلك، وسبقه إلى مثل هذا القول العديد من المسؤولين أيضاً، ولكن، هل يكفي استمرار دفع الرواتب للقول بنظرية الصمود تلك؟! وهل تساءل أحدهم على حساب من تم هذا الصمود الافتراضي؟!
الاقتصاد السوري لم ينهر كما سعى البعض وراهن طول الأزمة التي تمر بها البلاد، إلا أنه لم يصمد بصورة (أسطورية) كما يدعي البعض على الضفة الأخرى، وعلى العكس تماما، عرّت الأزمة الخلل البنيوي العميق في جذور الاقتصاد السوري، فقد ساهم هذا الخلل في تقليل قدرة الاقتصاد الوطني على الصمود من حيث المبدأ، فأي صمود اقتصادي يجب أن يرتكز إلى فرضية الاكتفاء الذاتي، وهذا يجعل من حجم ونسب الاستيراد من الخارج مقياساً ومؤشراً لقوة الاقتصاد وصموده من عدمه، ولهذا من واجبنا أن نتساءل: ما هي هذه النسبة الآن إذا ما تمت مقارنتها بسنوات ما قبل الازمة؟!
اللهث خلف الاستيراد؟!
بعدما كانت سورية تنتج قرابة الـ 400 ألف برميل من النفط يومياً، هي الآن لا تنتج محلياً سوى مليون برميل في ثلاثة أشهر، وفي تدني الإنتاج هذا زيادة في نسب الاعتماد على الاستيراد من الخارج، فالبلاد تستورد 96% من حاجتها للمشتقات النفطية، بينما لا يغطي الإنتاج سوى 4% من تلك الاحتياجات..
قبل عامين من الآن، وتحديداً في عام 2012، أبرمت سورية عقدين لاستيراد مادة الدقيق للمرة الأولى في تاريخها لتغطية حاجة الاستهلاك المحلي من مادة الخبز، العقد الأول مع أوكرانيا والثاني مع إيران، حيث تستورد الحكومة نحو 4 آلاف طن من مادة الطحين يومياً، بسعر 580 دولار أمريكي للكيس الواحد، أما بالحسابات الإجمالية، فقد وصلت قيمة مستوردات البلاد من الطحين من إيران وأوكرانيا في عام 2013 إلى نحو 68 مليار ليرة، بينما سيصل المبلغ في عام 2014 إلى 138 مليار ليرة..
في (عجقة) الاعتماد على الاستيراد الخارجي، كشفت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في شهر آذار من عام 2014، عن وجود 5 عقود لاستيراد كميات أكبر من الدقيق عبر الخط الائتماني الإيراني وغيره من المواد الغذائية، بالإضافة إلى عقود جديدة مع أوكرانيا وروسيا الاتحادية لاستيراد الدقيق والسكر والمعلبات وغيرها من المواد الأساسية، فوق كل ذلك، بدأت سورية باستيراد الفروج المجمد، وتسعى لاستيراد 2000 بقرة من أوكرانيا، واستوردت سورية سلعا ومواد أساسية، كالسكر الأبيض، والأرز، بالإضافة إلى الأسمدة، وقائمة الاستيراد السورية تطول..
انكشاف أسرار الصمود
الاعتماد المتزايد على الاستيراد لم يكن وحده الدليل، بل إن اتكاء الاقتصاد السوري إلى خط ائتماني إيراني لتمويل استيراد السلع بقيمة مليار دولار قابل للزيادة فور استنفاده، وخط ائتماني آخر بقيمة 3 مليارات دولار لتمويل احتياجات سورية من النفط والمشتقات النفطية، هو دليل آخر على الهشاشة التي وصل إليها الاقتصاد السوري..
قد يقول قائل إن الاستيراد ليس بالجديد على الاقتصاد السوري، وبأن الميزان التجاري كان لمصلحة المستوردات منذ عام 2003، وهذا ما لا يمكن إنكار وجوده، إلا أن الاعتماد شبه الكلي على الاستيراد لتأمين حاجة الأسواق من العديد من المواد الأساسية والاستراتيجية هو ما لم يحصل في السابق، كالأقماح والطحين التي تحقق منها الاكتفاء الذاتي منذ عام 1994، وهذا الاعتماد على الاستيراد المتزايد لا يعكس صموداً اقتصادياً بقدر ما يعبر عن خلل حقيقي بدأ يتكشف في جسد الاقتصاد السوري طالماً أنكر وجوده القائمون على إدارة الملف الاقتصادي منذ عقود..
الاقتصاد السوري بات كالرجل المريض الذي لا يعيش إلا على الدواء المستورد، وبانقطاعه سيموت الرجل لا محالة، فهو أكثر اعتماداً من السابق بعشرات المرات على دول الخارج في تأمين احتياجاته بكثير من المفاصل والأساسيات الحياتية، والسلع الاستراتيجية على رأس قائمة المستوردات، فهل هذا يعكس صموداً اقتصادياً جدياً؟! وهل تعّبر تلك الحالة عن اقتصاد قوي وقادر؟! وأكاد أجزم، أن السياسات الاقتصادية لو ركزت في السابق على قطاعي الإنتاج الحقيقي (الزراعة والصناعة) لما زحف الاقتصاد السوري لاهثاً وراء الاستيراد، فالأزمة كبيرة، والتأثر الواسع أمر طبيعي، إلا أن الخلل البنيوي في جسد الاقتصاد السوري كان أكبر، وترك تأثيراته الواسعة، مما فاقم الأزمة الاقتصادية، التي تحمّل وزرها فقراء البلاد بالدرجة الأولى..