أزمة المراكز فرصة لتطور الأقاليم
التبادل اللامتكافئ إن جوهر التبادل اللامتكافئ هو عملية أحادية الاتجاه تبسيطها هو سحب الخام من الدول النامية بأسعار زهيدة يليها التكثيف الصناعي والتكنولوجي في الدول المتطورة ولاحقاً إنتاج السلع الجاهزة للأسواق العالمية بأسعار عالية..هذا التبسيط للعملية قاصر ولكنه ضروري لتوضيح النقطة الأساسية التي تقوم التجارة الدولية على أساسها.
حيث تعتبر التجارة الدولية أداة أساسية لتثبيت عملية سحب المقدرات أو التمركز الرأسمالي، والتي تجاوزت كثيراً سحب المواد الخام وتوريد المصنّع، وهذا التجاوز منطقي مع حدوث تغيرات كبيرة في بنية الإنتاج العالمي، والحاجة إلى تكييف التجارة الدولية مع مستجدات من نوع قدرة طيف واسع من الدول النامية على إتمام عمليات التصنيع لأسباب متعددة منها ما يتعلق بحاجة الدول المتطورة إلى تصدير صناعاتها من الدرجة الثانية، ومنها ما يتعلق بظهور الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية لتفرض منطقاً جديداً للتجارة الدولية في مرحلة معينة. إذاً احتاجت عملية التبادل اللامتكافئ إلى تطوير أداتها وهي التجارة الدولية، بحيث تحافظ على عملية التدفق الرأسمالي إلى دول المركز، وتعيق عمليات الانفصال عن منظومة التجارة الدولية، ولهذا الغرض تشكلت في مرحلة انتعاش ما بعد الحرب العالمية الثانية منظمات لإدارة التجارة الدولية كمنظمة التجارة العالمية مع غيرها من المؤسسات الدولية، صاغت بدقة برامج تفصيلية تعيد ترتيب البنية الاقتصادية كاملة للدولة الأقل تطوراً بما عرف «بالتكييف الهيكلي»، وأصبحت هذه البرامج عرفاً لكل العلاقات الاقتصادية الثنائية وتحديداً بين الدول النامية والمتطورة.
حرية أحادية الجانب
الاقتصاد الأقوى يحتاج إلى حركة حرة لكل عناصره سلعه وخدماته ولاحقاً فوائضه الربحية، والتحرير الاقتصادي هو العرف الأول، حيث تسيطر سلع الشركات الكبرى وخدماتها على الأسواق العالمية، وتسحب طاقة وقدرة المنشآت الصغرى والمتوسطة عالمياً.
أما الأهم فهو تحرير حركة فوائض الربح المتراكمة عالمياً، حيث أصبح الاندماج بالسوق المالية العالمية عرفاً أساسياً أيضاً..أما باقي الالتزامات فكلها تصب في اتجاه واحد، هو سلب الفوائض المتراكمة عالمياً، ففرض القروض العالمية وخدماتها المرتفعة جزء، ومقص الأسعار الذي يؤمنه فرض السعر الاحتكاري عالمياً جزء آخر، وأداة التبادل الدولي أي العملات الدولية تعتبر أيضاً إحدى أهم أدوات النهب غير المباشر، يضاف لذلك هيمنة المصارف الدولية الكبرى التي تعتبر حلقة وسيطة في أغلب التبادلات التجارية الدولية.
حرية القوى الاقتصادية الكبرى في الهيمنة على الأسواق يقابلها لجم إمكانيات التطور الذاتي للدول النامية، عن طريق أعراف التحكم السابقة.
البنى الاقتصادية الجديدة
هذا الاتجاه الذي وسم العلاقات الاقتصادية الدولية خلال المرحلة السابقة وضع أسساً متينة لهيمنة المراكز الكبرى، إلا أن هذه المتانة تحتوي عناصر هشاشتها، حيث استطاعت بنى اقتصادية مختلفة أن تخرق هذه المتانة، ولأسباب متنوعة، فبعض الدول استفادت من عمليات نقل الصناعات إلى خارج المراكز، واستطاعت أن توطن شيئاً من التكنولوجيا المستوردة، وبعضها الآخر يمتلك بنى قوى عظمى أي جملة عوامل (مصادر طاقة وسوق داخلية ويد عاملة متطورة) أعطتها استقلالاً نسبياً في علاقاتها مع المراكز، وبعضها الآخر امتلك القدرة على استخلاص التجارب، والاستفادة من أزماته، وفرض شروطه لاحقاً لينتقل إلى عملية نوعية في تكييف الاستثمار الأجنبي تحديداً.
استطاعت هذه البنى المتنوعة التي أصبحت تسمى بالدول الحديثة التصنيع أن تسحب جزءاً هاماً من هيمنة مراكز الغرب على التجارة الدولية، إلا أن أغلبها ظل مرتبطاً تجارياً ومالياً وحتى تكنولوجياً بهذه المراكز التي تعتبر المصدّر والمستورد الأول..
الأزمة تتيح تحرير النمو
أتاحت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية فرصة للبنى الجديدة، وتحديداً أتاحت إمكانية التبادل خارج إطار منظمات التجارة الدولية والتزاماتها، وقلصت حجم القوى الكبرى تجارياً، وأصبح من الممكن تجاوزها كحلقة مفروضة تجارياً أو مالياً، وربما الأهم هو إعادة تكييف السياسات الاقتصادية بما يناقض منطق الهيمنة القائم على تهميش الدولة، فأثبتت الدولة في حالات عديدة وبأشكال متباينة، أنها المنسق العام لعملية تطور هذه القوى الاقتصادية، والداعم الأول، وهذا ما يفسر المنطق الجديد الذي يظهر في التبادل التجاري مع هذه البنى الصاعدة حيث تبدي في سلوكها وعلاقاتها استراتيجية بعيدة المدى، لا تنم عن عقلية ربحية أقصوية كالتي تسم التعامل مع الغرب الذي تمثله شركاته الاحتكارية الكبرى.
يذكر تقرير الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في عام 2007 أن دراسة تجارب التكامل الإقليمي بعد أن قطعت شوطاً هاماً تظهر، بأن النمو العالمي في التجارة الإقليمية مرتبط بنمو شبكات الإنتاج في هذه الأقاليم. فالاندماج قائم على أساس موضوعي هو التقارب في المستوى الإنتاجي وفي خط التطور العام، أي يناقض تماماً «توسيع الفجوة» الذي يعتبر الأساس الذي تقوم عليه عمليات الاندماج العالمية مع المراكز.
ويذكر أيضاً أن العديد من حالات التجارة الإقليمية تشهد زيادة في التصنيع والصادرات لدول الإقليم أكثر من التجارة الخارجية.
هيكلية التجارة الدولية أعاقت سابقاً عمليات التصنيع وأعاقت الترابط بين الكتل الاقتصادية الأقل تطوراً، وهيأت سحب كل تراكم صناعي إنتاجي، وبالتالي قيدت النمو والتنمية عالمياً، ويذكر التقرير أن التكامل الاقتصادي يفترض أن يتحول إلى أداة لتوسيع استراتيجية التنمية المعتمدة على زيادة التراكم الرأسمالي المحلي والتطور التكنولوجي.
إ قليمنا
تجاوز «الاندماج العالمي» بمفهومه الرأسمالي، يتطلب صياغة مفهومنا عن الاندماج، فليست العزلة هي الحل، وإنما المنهجية في العلاقات الاقتصادية الدولية هي إحدى بوابات النمو الأساسية، فسورية جزء من إقليم اقتصادي متكامل يعتبر من أهم الأقاليم العالمية من حيث وفرة الموارد والطاقة والتنوع الكبير، والتشابه النسبي في الظروف الاقتصادية وحتى السياسية لدول الإقليم. وهذا الإقليم في الشرق، في امتداد تقريبي من بحر قزوين وحتى المتوسط، ولسنا في إطار حصره بالتحديد حيث قد يتسع أو يضيق التعاون الإقليمي، ولكن يبقى الأهم هو معرفة أن التوجه الاقتصادي يفترض أن يندفع بعيداً عن المراكز الكبرى بشكل منهجي، وليس بناء على الظرف الراهن، حيث تُظهر الأزمة الحالية وعي أقطاب أساسية في الشرق لدور المنطقة في الاقتصاد الدولي، ولضرورة عدم استلابها. وهي واعية لضرورة التحالف الاستراتيجي كشرط للمحافظة على خط التطور الذي تمثله قوى اقتصادية هامة في المنطقة كالصين وروسيا وإيران والتي يدفعها وعي مصالحها، إلى تقديم تسهيلات وفرص لإخراج سورية اقتصادياً من فضاء الاتحاد الأوروبي الذي وضعت به، وهذا يتطابق مع مصالحنا ويشكل فرصة لا يمكن إضاعتها، لأن إخراج سورية من الأزمة السياسية، يتطلب عملية انفصام عن القديم وأدواته وأزلامه، وارتباط بالفضاء الاقتصادي الجديد الذي يتيح بناء نموذجنا المستقل..