المستوى الأول من الأزمة الاقتصادية ...التراجع والانحراف الاقتصادي
تقتضي شدة التأزم الاقتصادي والاجتماعي الحالية العودة إلى المرحلة السابقة لهذه الأزمة، والتي تعرضت خلالها بنية الاقتصاد السوري لأعلى مستوى من ضغط القوى الليبرالية، حتى استطاعت أن تعلن مشروعها وأن تتجاوز وبسرعة كثيراً من المحظورات، وتتلخص سمات تلك المرحلة اقتصادياً بجانبين، أولهما التراجع الاقتصادي، وثانيهما الانحراف الاقتصادي.
لم تنل أي حكومة سورية سابقة ما نالته حكومة «اقتصاد السوق الاجتماعي» من «اهتمام» السوريين، والسبب يعود لحدوث نقلة في مستوى التماس مابين قرارات الحكومة وسياساتها وما بين عيش المواطنين والتفاصيل الكثيرة التي مسّت أجرهم الحقيقي..هذا لا يعني أن الحكومات السابقة وسياستها المتبعة كانت ضامنة لحقوق المواطنين أو تعمل لمصلحتهم تماماً، إلا أنها لم تكن قادرة على الانحياز ضدهم بشكل واضح كما فعلت الحكومة المذكورة..
التراجع الاقتصادي
الليبرالية السورية ممثلة باقتصاد السوق الاجتماعي، اقتربت من بعض المواضع التي كانت تعتبر لفترة طويلة خطوطاً حمراء في بنية الاقتصاد السوري فأعلنت انحيازها لمنطق « دع الأغنياء يغتنوا» معتمدة التحرير والاندماج بالاقتصاد العالمي كضرورة، وأعلنت أن الاستثمارات الخارجية وسياسات جذبها كمورد أساسي للنمو. نجم موضوعياً عن هذه السياسة تراجع الإنتاج الحقيقي، فوضعت هذه الحكومة مشروعاً فضفاضاً لإصلاح القطاع العام الصناعي، نجم عنه استمرار إغلاق وخسارة عدد كبير من منشآته. وأعلنت رفع الدعم وتخفيض الإنفاق الحكومي شعارها الأساسي، فخسرت الزراعة والصناعة، وأصحاب الأجور الكثير جراء هذه السياسة.
بالأرقام
في عام 2005 بلغت حصة الإنتاج الحقيقي ممثلاً بالزراعة والصناعة والتشييد والبناء، من الإنتاج الإجمالي %62
وتراجعت في عام 2010 إلى %54.
انخفض عدد العاملين في القطاع العام الصناعي ما بين 2006 و 2010 حوالي 10000 عامل.
نسبة شركات القطاع العام الخاسرة %45 من مؤسسات هذا القطاع.
الانحراف الاقتصادي
التراجع الاقتصادي الواضح في موارد الدولة من إنتاجها الحقيقي، قابله زيادة في انحراف السياسات وأدواتها كافة لمصلحة اقتصاد الريع أي المعتمد على الربح السريع غير الحقيقي، وكانت أهم معالمه تضخم فروع وقطاعات الخدمات وزيادة حصتها من الناتج، إضافة إلى زيادة الارتباط بالسوق العالمية بما يحقق مصلحة سماسرة هذه السوق وهم تجار الاستيراد، فحُررت التجارة ولهث «أكاديميو» الليبرالية ومنظروها، من أجل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية والتمتع بآليات استغلالها..وكانت النتيجة إغراق السوق الداخلية بمواد وبضائع الأسواق الخارجية، ما أدى إلى إغلاق صناعات وورش متوسطة وصغيرة كثيرة غير قادرة على المنافسة.
أعلنت قطاعات خدمية قاطرة للنمو كالتجارة والمصارف ومؤسسات المال، السياحة والاستثمار العقاري..
وبالنتيجة لم تستطع هذه الفروع أن تحرك اقتصاداً تعمل سياسات حكومته على تأريض إنتاجه الحقيقي في الزراعة والصناعة، أو أن تضخ المال للاستثمار في بنية إنتاجية معيقة من حيث الكلف العالية، أو من حيث مستوى الاستهلاك المتراجع مع تراجع مستوى المعيشة. وإنما لعبت قطاعات المال دوراً سلبياً من حيث تجميد الأموال وتشغيلها في الفروع الأم لهذه المصارف، مقابل فوائد وعوائد قليلة، وعزلها عن النشاط الاقتصادي الحقيقي، بالإضافة إلى الفورة التضخمية العامة وتحديداً في أسعار العقارات.
جذب الاستثمار الخارجي كان أيضاً أحد العناوين الأساسية التي أعلنت كمورد أساسي من موارد الاقتصاد السوري، وضرورة من ضرورات النمو، واقتضت هذه الضرورة أن تلغى كل الضوابط والمتطلبات من شركات واستثمارات الخارج، لا بل قدمت لها كل التسهيلات الضريبية، وقدمت لها أملاك الدولة مجاناً أو بأسعار رمزية.. وعلى الرغم من هذا لم يكن نصيب سورية من الاستثمارات الخارجية كبيراً، فكانت ذات طابع ووجهة محددة بناء على عوامل كثيرة، فهي ريعية غير إنتاجية نظراً لارتفاع الكلف وضعف السوق الداخلية، وهي أيضاً معتمدة على علاقات وترابطات مع سماسرة الاستثمار الخارجي، وطابع نشاطهم الاقتصادي. فإذا ما أخذنا عام 2008 كمثال فإن الاستثمارات الموجهة إلى قطاعات الاتصالات والوساطة المالية والبنوك والتأمين والعقارات والفنادق والمطاعم بلغت حصتها من إجمالي الاستثمارات الأجنبية حوالي %84.
أما من أبرز إنجازات الانفتاح الاقتصادي فكانت إتاحة عمليات التمركز التي تمت عبر التحالفات الكبرى لكبار رجال الأعمال السوريين بعلاقات واسعة مع رؤوس الأموال الخارجية والتي كانت خليجية بشكل أساسي حيث تم خلال عامي 2006 - 2007 تأسيس الشركات القابضة وأهمها، شركة «الشام القابضة» بحجم نشاط يقدر بـ 60 % من السوق السوري، حيث أسسها 71 رجل أعمال برأس مال يقدر بـ مليار و 350 مليون دولار أميركي. والشركة «السورية القابضة» التي يقدر حجم النشاط الاقتصادي لمؤسسيها بأكثر من مليار دولار أميركي.
التهميش للسوريين ولإنتاجهم
الغاية من هذه المقاربة للواقع الاقتصادي في المرحلة السابقة هو توضيح أثر التراجع الاقتصادي والانحراف الاقتصادي على بنية المجتمع السوري، فإذا ما نظرنا إلى قطاعات الإنتاج الحقيقي أي الزراعة والصناعة، نرى أنها تستوعب النسبة الأكبر من القوى العاملة السورية، وتراجعها يؤدي إلى زيادة في عدد العاطلين عن العمل، وفي هذا التراجع يكمن جوهر زيادة البطالة في سورية.
فإذا ما أخذنا الجزيرة السورية كخزان زراعي، فإن هذا الإقليم عانى من انخفاض في التشغيل الزراعي ما بين عامي 2001 و 2008 بمقدار %43. هذه المرحلة شهدت ظاهرة اجتماعية هامة هي الهجرات الكبيرة لسكان هذه المنطقة لتستوطن بالقرب من المدن الكبرى حيث يزداد احتمال الحصول على عمل. لا تقتصر ظاهرة الهجرة على إقليم الجزيرة السورية وإنما هي حالة عامة يشهدها الريف السوري، حيث سجلت المدن الكبرى زيادات سكانية كبيرة جراء الهجرات الداخلية، وما نتج عنه من توسعات عمرانية غير نظامية، «العشوائيات».
بالمقابل فإن ورش وحرف المدن والريف القريب منها قد تعرضت أيضاً على أثر التراجع الاقتصادي إلى حالات إغلاق واسعة رافقها تسريح عدد كبير من شغيلتها، وشكل هذا ضغطاً جديداً على فرص العمل القليلة في المدن. أي أن الصناعة المهملة بمستوياتها المختلفة ولدت قوى عاملة فائضة وقدرة أقل على استيعاب الوافدين الجدد إلى السوق، بالمقابل فإن الانحراف الاقتصادي نحو قطاعات الخدمات والمال غير قادر بطبيعته على تحقيق طلب مناسب على قوة العمل. وهكذا فإن كلا التراجع والانحراف كسمتين لاقتصاد المرحلة السابقة ينتجان حتماً البطالة الواسعة، وينتجان تغيرات بنيوية في التركيبة السكانية للريف والمدن السورية.
ظواهر اجتماعية
تعرضت بنية الريف السوري لتدهور كبير وبزمن قياسي، وهذا العامل الاقتصادي المحدد يحمل آثاراً اجتماعية لربما الواقع الحالي يعبر عنها، فهذه البنية المتماسكة والمتسمة بالميل للاستقرار تعرضت لما يمكن تسميته « بالصدمة»، فتغيرت تركيبتها من فلاحين مالكين إلى عمال زراعيين، ولاحقاً إلى مهاجرين موسميين، أو إلى قاطني عشوائيات المدن الكبرى، الذين تحولوا إلى «مياومين»، باحثين عن قوت يومهم، وهؤلاء هم النسبة الأكبر من المهمشين.
يتكثف في العشوائيات تشوه البنية الفلاحية المهجّرة قسراً والخاضعة لظروف التخلف والانحلال بأقسى أشكاله، حيث فرّغت تدريجياً من سماتها الإيجابية، وحل مكان البساطة والتكافل الانحلال الناتج عن الفقر والتخلف، ولذلك بقيت هذه البيئة رهينة لميلها العام للتسلح، والعقلية الثأرية التي تمتاز بسهولة حرفها ودفعها للتطرف، والدخول في التناقضات الثانوية، حيث الطائفية هي شكلها السوري.