ما.. من.. كيف هو الفساد؟
د. عفيف رحمة د. عفيف رحمة

ما.. من.. كيف هو الفساد؟

قدم لنا التاريخ عبر الحالة السورية نموذجاً فظاً عن ما يمكن للفساد أن يفعل من تفسيخ في بنية الدولة والمجتمع بفضل ما ينتجه من إفرازات تعمل على تحلل أسس تشكلهما التاريخي.

قدم لنا هذا التاريخ أيضاً بياناً إتضح عبر قراءته صعوبة معالجة هذه الظاهرة لما لتداخلاتها السرطانية وتشابكاتها الوظيفية من أثر على مفاعيل الحياة العامة والخاصة الإقتصادية الاجتماعية الثقافية والأخلاقية. ومن هذه الصعوبة تأتي أهمية تحليل هذه الظاهرة في العمق التاريخي والبعد الطبقي.

تاريخياً وجد الفساد في سورية فضاءه المناسب في كنف منظومة الدولة التي تأسست فيما بعد الاستقلال حيث غلب على أداء الحكم منهج قلب المفاهيم كتقديم الخاص على العام وإحلال الجزء مكان الكل مما ساهم مع الزمن في اعتماد «قاعدة الحكم» على التسلط والجنوح نحو سلطة الفرد بدلاً من سلطة مؤسسات المجتمع.

بدأ يتجذر الفساد كثقافة مجتمع في مناخ الستينيات من القرن العشرين بفضل ما عاشته سورية من ضائقة عامة بفعل السياسات الاجتماعية والاقتصادية ضيقة الأفق، إلا أن هذه الظاهرة تحولت إلى آلية عمل منذ السبعينيات بالتزامن مع الانفتاح الاقتصادي والتوجه نحو الغرب وتنشط الإستثمارات الخاصة التي فتحت شهية بعض الممسكين بمفاتيح صنع القرار والنخبة الجديدة في صفوف السلطة (سيشرح التاريخ مستقبلاً طبيعتها).

سياسياً تبنت السلطة شعارات متناغمة مع طموحات الطبقة الكادحة المالكة لقوة العمل والفاعلة في تنامي الثروة. غير أن هذه السلطة التي تمثل بالمنظور الطبقي مصالح البرجوازية الصغيرة الحاملة في مورثاتها نزعة التملك واللهث نحو الثراء، لم تخف في سلوكها هوس السعي نحو مظاهر الرخاء البرجوازي الذي لا يمكن تحقيقه في الظروف السياسية لمجتمعنا إلا بالجنوح نحو الفساد الذي أذكى فعله مجمل الإنحرافات في إدارة الدولة التي تمت خلال عقود والتي إنتهت في العقد الاول من الألفية الثالثة بنهج الإصلاحات الإدارية والإقتصادية التجريبية المبنية على قصور في الرؤية وفهم ذاتي لا مجتمعي لمعنى الإصلاح والتنمية.

جاءت هذه الأزمة لتستعجلنا في تصحيح خياراتنا الوطنية وتدفعنا للتخلي عن منهج وضع القضايا الطبقية في مؤخرة سلم إهتماماتنا الوطنية والتلطي وراء ما اعتبر تاريخياً إستحقاقات قومية وتاريخية، نهج لم يُستثمر من قاعدة الحكم إلا لإيجاد مبررات تغليب الذاتي على الموضوعي والخاص على العام وتحميل المنعكسات السلبية للسياسات اللاطبقية واللاوطنية على أكتاف الطبقات الإجتماعية الأكثر تضرراً من داء الفساد.

في مجمل محاولات تعريف الفساد تمً الإعتماد على فهم سكوني لهذه الظاهرة، حيث يجرى الحديث عن فساد كبير وفساد صغير، وكأننا انطلاقاً من هذه النظرية وبعملية بسيطة يمكننا تفجير الفساد الكبير أو تجزئته إلى فساد صغير لنفقده قوة فعله المادي ونعطل فيه كمونه المجتمعي.

دون سوء نية وضعنا المواطن المصنف بالفاسد الصغير، رغم كونه الضحية الأولى للفساد، على ذات المنصة التي تجلس عليها القوى المنتجة لهذا الفساد، جعلنا القاتل والمقتول في قفص اتهام واحد وجعلنا من المواطن المغلوب على أمره شريكاً بالمسؤولية مع أسياد الفساد، بمعنى آخر ووفق هذه النظرة السكونية ودون إرادة منا وسمنا شعباً بأكمله بصفة الفساد، حالة لا موضوعية ولا تاريخية.

بماذا نختلف إذاً بثقافتنا الطبقية عن الثقافة البرجوازية التي كثيراً ما تكون مرتكزة برؤيتها على البعد الأخلاقي الديني، حيث لا يميز بين المُنتج لهذه الخطيئة ومُستهلكها. فعملاً بهذا المنهج غاب الفهم الطبقي وغلب المنطق البرجوازي الذي يتزين بالمعايير الدينية في تقييم السلوك البشري والتي بموجبها يتساوى الأفراد بممارسة الخطيئة حيث الفرد مسؤول عما يفعل لا عما أجبر على فعله فالذنب ليس ذنب الحية الماكرة بل ذنب آدم ضعيف الإرادة رغم معرفتنا بالضعف المسبق لإرادته.

كان يمكن تصنيف الفساد ضمن منظومة الماركة المسجلة Registered Brand وإدراج أتاوة الفساد (وفق العقلية المافيوية) في إطار ما يدفع على تسجيل الماركة من رسوم، غير أن هذه الدمغة لم تقتصر على البضائع عالية الجودة بل ألصقت حتى على المنتجات عالية السوء كما ألصقت على المنتج المعنوي والخدمة العامة والخاصة بمفهومهما النفعي.

هنا لا بد من الأخذ بالاعتبار أن هذه الظاهرة بتأثيرها المادي تشبه الثقب الأسود في الفضاء الكوني الذي يستهلك المادة ويفنيها من لحظة ملامستها لحدوده، هكذا يعمل الفساد على استنزاف وتبديد، المال العام والثروة الوطنية خلافاً للرأسمال الخاص المحصن بالحماية الذاتية لا بل المستفيد بالنتيجة من إفساد كافة مؤسسات الدولة دون إستثناء.

هكذا في ظل المنظومة السياسية المتزاوجة مع الطبقة الوليدة حديثة الثروة والنعمة العاشقة لمظاهر الرخاء البرجوازي ترعرع الفساد وأسس منظومته في مناخ التشريعات وآليات عمل مؤسسات الدولة التي أثر فيها أو تألقم معها فتحول إلى منتج ظل مرافق لإنتاج أية سلعة أو خدمة ذات منفعة أي أنه أصبح متلازماً مع عملية الإنتاج المادي والمعنوي وحتى الثقافي والعلمي.

في إطار البحث عن تحليل لهذه الظاهرة وفهمها فهماً دقيقاً وعلمياً يتوجب علينا أن نتعامل معها كحالة حركية تتوافق وقوانين الإنتاج السلعي، أي تصنيف الفساد كمنتج من منتجات مؤسسة ظل الدولة أو دولة الظل، والنظر للمواطن كمستهلك يتعامل مع هذا المنتج ويتداوله بشكل إرادي أو قسري، ودون ذلك لا يمكننا فهم هذه الظاهرة ومعالجتها كحالة حية تملك خاصية التطور والإستمرارية.

ننظر غالباً لرأس المال على أنه المحرك الأساس للمنظومة الاقتصادية أما السلطة فهي المؤسسة الدستورية المكلفة بإدارة المجتمع غير انه إتضح أن التزاوج بين السلطة الهائجة غير المراقبة مع المال ينجب وفق الخاصة الإنبثاقية مؤسسة ظل تنتج الفساد، تتميز مؤسسة الظل هذه بما تتميز به المؤسسة الإقتصادية مع تشابه قريب في بنيتها وآلية عملها، فلها مجلس إدارتها المكون من القوى المتنفذة في السلطة أو المؤثرة فيها، ولها نخبتها من الكفاءات الفنية والمالية والضريبية التي وضعت نفسها في خدمة هذه المؤسسة للمساهمة في تأمين التواصل مع القوى المتحكمة بالمال والثروة.

ما يميز هذه المؤسسة أنها تتمتع بالحصانة من الإفلاس، حيث يحل رأس النفوذ مكان رأس المال، وتحل قاعدة النفوذ مكان قاعدة السلطة المكلفة بحماية آليات نشاط مؤسسة الظل هذه وتوفير الضمانات اللازمة لإستمرارها ولنجاح عملها.

استكمالاً لمكونات هذه المؤسسة المالكة لرأس النفوذ يعمل مجلس الإدارة على فتح أسواق وزرع وكلاء ومراكز ترويج وغيرها من البنى التحتية لمكونات منظومة المؤسسة الإقتصادية.

ضمن هذه البنية تتماشى منظومة الفساد مع مقومات الإنتاج السلعي حيث يخضع الفساد لعمليات التسويق كما يتمتع بقابلية التطوير على قاعدة الإنتاج في الصناعات التحويلية وذلك بسعي المواطن المتعامل مع هذه المادة إلى إستثمارها بتطويرها وإنتاج أشكالاً تكميلية سعياً لتحقيق بعض من فضل القيمة الزائدة، عملية تصنيعية أخيرة لترويج تداول هذه السلعة بأشكال ترضي العامة، مما يساهم في زيادة رواجها وزيادة تشابك وتنوع أشكال التداول.

لقد استفادت منظومة الفساد من توظيف الإعلام في خدمتها لحرف النظر عنها والتقليل من كارثيتها عبر مقولات عدة كمقولة «كلنا شركاء» التي تطوع الإعلام الرسمي وشبه الرسمي والمنظمات الحزبية وغيرها لترويجها وتجيير القسم الأكبر من مسؤولية الخلل البنيوي الحاصل في المجتمع على ظهر المواطن وتقديم براءة ذمة وشهادة حسن سلوك لصناع الفساد، وإعفاء الدولة وتبرئة مؤسساتها من المسؤولية الأخلاقية والسياسية لما آلت إليه البلاد من تدهور على الصعيد الإقتصادي والإجتماعي والأخلاقي، وحتى الطبقي حيث ساهم الفساد عبر سنوات عبثه اللا أخلاقي في خلخلة جميع البنى الطبقية دون إستثناء عبر خلق ما أسماه لينين بأرستقراطية الطبقات (كان يتحدث حينها عن أرستقراطية الطبقة العاملة المتمثلة بمن تم شراؤهم من العمال برفع أجورهم أضعاف اقرانهم ليكونوا قواداً ومخبرين في صفوف العمال).

إن مكافحة الفساد بشكليه الكبير أوالصغير، المُنتج أوالمُستهلك والذي هيمن على الحياة العامة بمختلف سوياتها وتجلياتها الإقتصادية الثقافية والمجتمعية حتى أصبحت ثقافة مجتمع ومؤسسات، يتطلب توصيفاً دقيقاً لهذه الحالة التي تستمد ديموميتها وتناميها من حركيتها، للتمكن من فكفكة آلياتها السرطانية المتداخلة في البنية الإقتصادية والسياسية، ودون ذلك نكون قد جمدنا الحالة حتى أجل قريب دون معالجة حقيقية لسيرورتها وبنيتها الحية.