الاحتياطي أم قيمة الليرة.. خيار الحكومة القادم
ترتفع أسعار الدولار من جديد، لتعكس انخفاض قيمة الليرة عموماً، وليدل الارتفاع المتكرر على تجاوز المسببات الثانوية وصولاً إلى الواقع الموضوعي الذي يسبب انخفاض قيمة العملة السورية باعتبارها المعبّر عن مستوى النشاط الاقتصادي.
فمع كل ارتفاع في سعر الدولار، تتكرر سلسلة التقديرات والتحليلات التي تحتوي الكثير من الصحة، ولكنها تتجاهل عمداً أو من غير عمد المسبب الرئيسي المتعلق بنتائج الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي تمر بها البلاد وأثر ذلك الطبيعي على قيمة الليرة السورية.
فارتفاع سعر الدولار يتعلق بشكل مؤكد بمضاربات السوق السوداء، ويتعلق بتراجع الطلب على الليرة مقابل الطلب على الدولار، وبهروب رؤوس الأموال وتحويل الايداعات بالليرة إلى العملة الصعبة، وبكل هذه المسببات التي من الضروري الوقوف عند كل منها وتقدير دقيق لحجم كل منها في التأثير على مستوى تراجع الليرة السورية. إلا أن هذه العوامل إذا بقيت دائماً في واجهة التحليلات الاقتصادية فإنها تسبب التعامي عن المشكلة الرئيسية وبالتالي عدم القدرة على التعامل معها.
مستوى الأزمة الاقتصادية يتطلب مستوىً عالياً من الموضوعية العلمية والاعتراف بالواقع واختيار الحل الأمثل الذي يضمن أقل الخسائر، ففي ظل الواقع الحالي من غير الممكن أن يكون الجميع رابحين، وعلى السياسات الاقتصادية أن تختار من بين الخيارات الصعبة ما يحقق مصلحة أغلب السوريين ويحمي قوت عيشهم.
علاقة الليرة بالدولار وهدر الاحتياطي
يرتفع سعر الدولار فتتوجه أنظار الإعلام والمحللين وكتاباتهم إلى البنك المركزي، وإلى السوق السوداء. وتتوالى تصريحات المسؤولين التي تؤكد أن قيمة الليرة لن تتزحزح أو تترنح مهما طال أمد الأزمة، مؤكدة أن كميات القطع تكفي.. حتى لتشعر بأن التصريح التالي سيكون إعلان زيادة قيمة القطع خلال الأزمة.
ليس جديداً على التصريحات الرسمية السورية والاقتصادية منها تحديداً «التمترس» وراء التطمينات حتى «يقع الفاس بالراس» وتكون كل السياسات المطلوبة قد فات أوانها.
فالليرة ليست بخير تماماً، ولم ولن تحافظ على قيمتها كما هي، وحفاظها على قيمتها رقمياً في نشرات المركزي لا يعني أبداً أن قيمتها الحقيقية التي تنعكس في قدرة السوريين الشرائية، ومستوى الأسعار العامة لم تتراجع.
الليرة إلى تراجع..
الليرة كمعبّر عن مستوى النشاط الاقتصادي من الطبيعي أن تعكس في ظرف الأزمة تراجع الزراعة، وتوقف أغلب الصناعات وتراجع نشاطات النقل والتجارة المترتبة على هذا وذاك. فإذا كانت كمية السيولة بالعملة السورية تقوم بوظيفة وسيط تبادل بين هذه السلع والخدمات الضرورية، وتكتسب قيمتها الحقيقية والطلب عليها من وجود هذا النشاط، فإن تراجع كميات هذه السلع مقابل زيادة كميات الليرة السورية سيؤدي حتماً إلى انخفاض قيمة كميات العملة الموجودة في السوق والمتداولة. وستصبح السلع القليلة تقابلها ليرات أكثر للتعبير عنها، فتنخفض قيمة العملة. بالتالي حفاظ الليرة على قيمتها في ظروف أزمة اقتصادية هو عملية غير واقعية، ولا يمكن أن تستمر طويلاً.
ماذا تستطيع الحكومة أن تفعل وماذا فعلت؟
لا تمتلك الحكومة أدوات في وقت الأزمة تسمح لها بأن تحافظ على قيمة الليرة ثابتة أو بعيدة عن التراجع الموضوعي الناجم عن تراجع الإنتاج، إلا عن طريق المساهمة في تحريك النشاط الاقتصادي، الزراعي والصناعي تحديداً وذلك بدعم مستلزماته، وتحمل الخسائر عنه، والتي تنعكس بانخفاض أسعار منتجاته وتخفيف جزء من عبء ارتفاع الأسعار، أما على مستوى الاستهلاك فإنها تستطيع أن تحسن القدرة الشرائية لليرة بتأمين المواد الاستهلاكية الأساسية بأسعار مدعومة. أي تستطيع الحكومة أن تخفف من تراجع النشاط الاقتصادي بدعم الأساسي منه، وأن تتعامل مع نتائج انخفاض قيمة الليرة والتخفيف من الأثر السلبي الواسع الناجم عن ذلك، إلى حين تحسن الظروف الاقتصادية وعودة الإنتاج إلى وضعه الطبيعي.
الحكومة لم تفعل ذلك تماماً، لأنها انطلقت من التركيز على سعر صرف الليرة، أي قيمتها مقابل العملات الأجنبية، والدولار تحديداً، وعلى الرغم من أهمية هذا المؤشر وأثر تراجعه الكبير على إحداث تغييرات في أسعار السلع والمستوردة منها تحديداً، وأثره على «الثقة» بالليرة السورية والدفع باتجاه العملات الأخرى، إلا أنه لا يعتبر الحاسم في وقت الأزمة فالتراجع موضوعي وينبغي التعامل معه.
البنك المركزي
التركيز على سعر صرف الدولار مقابل الليرة ومحاولات التحكم به، تطلب من الحكومة التعامل بالاحتياطي النقدي الأجنبي حيث ركزت سياسات المركزي على ضخ الدولار في السوق لخلق طلب على الليرة، والحفاظ على قيمتها، وكانت النتيجة هدر جزء هام من احتياطي العملات الأجنبية ونقله إلى السوق السوداء ومحتكري العملة وكبار المضاربين.
حتى أصبح بمقدور هؤلاء التحكم بعرض الدولار في السوق وعدم البيع وبالتالي التأثير على سعر صرفه، ليستحثوا المركزي نحو المزيد من ضخ العملات في الأسواق، وهو ما كان يفعله.
لتستمر العملية في حلقة مفرغة، هدر الاحتياطي من العملات الأجنبية في السوق، يليه تحسن طفيف في سعر الصرف، ليعود إلى الارتفاع نتيجة للتراجع الموضوعي في قيمة الليرة من جهة، ونتيجة لقدرة كبار المضاربين على احتكاره، ليعود المركزي ويضخه من جديد..وهكذا يتم هدر الاحتياطي وتحويل جزء هام منه إلى السوق السوداء، مقابل عدم جدوى هذه العملية في المحافظة على سعر الليرة ثابتاً مقابل الدولار.
تمويل المستوردات
المحافظة على قيمة الليرة السورية تقتضي إذاً، دعم الإنتاج، ودعم الاستهلاك، لتحافظ على جزء من قيمتها الحقيقية، أما منطق تثبيت سعر الصرف كهدف، أدى حتى اليوم إلى هدر جزء هام من الاحتياطي المطلوب اليوم بشكل ملح لتأمين مواد ومستوردات أساسية.
فاحتياطي النقد السوري جزء هام من عوامل قوة الاقتصاد السوري الذي أتاح بعد عامين من تراجع موارد الدولة، استمرار قدرتها على استيراد أهم المواد وتحديداً مواد غذائية ووقود، ومستلزمات لإنتاج القطاع العام..
جزء هام من احتياطي النقد الأجنبي السوري قد تم استهلاكه في مستوردات الدولة خلال عامي الأزمة، ودون تعويض جدي له، وهو الاستخدام الضروري والطبيعي للاحتياطي.
إلا أن جزءاً هاماً منه أيضاً تم استخدامه لتمويل مستوردات القطاع الخاص، ودون تمييز أو تفضيل، وذلك عن طريق سياسة تمويل المستوردات.
أصدر المصرف المركزي جملة من القرارات خلال عام 2011 وبداية 2012 لتمويل مستوردات القطاع الخاص والعام والمشترك، والسماح لشركات الصرافة والمصارف الخاصة بالمساهمة في عملية التمويل. تواردت معلومات أيضاً عن وضع قائمة سلبية للمستوردات، تمنع استيراد مجموعة من المواد الكمالية، وهذه القائمة لم تبصر النور حتى اليوم. وتتضارب الأنباء الحكومية حول حدود وطبيعة المواد المستوردة التي يمولها البنك المركزي، حيث يقدم القطع الأجنبي للمستورد الخاص مقابل وضع مبالغ مقابلة بالليرة السورية، فبعض التصريحات تشير إلى أن التمويل يشمل جميع السلع المستوردة كما في تصريح لحاكم المركزي، وبعضها الآخر يشير إلى تمويل المواد الغذائية والطبية فقط، وبين هذا وذاك لا تتضح الصورة ليبقى الكثير من المجال للتساؤل حول طبيعة المواد الممولة.
بوابة لمكاسب غير مشروعة
اتضح خلال الفترة الأخيرة الكثير من المخالفات التجارية التي تستفيد من تمويل مستوردات القطاع الخاص بمجملها. فعدا عن كون العديد من البضائع المستوردة بسعر دولار مدعوم من المركزي تسعر في السوق المحلية بناء على دولار السوق، ظهرت خلال الفترة الأخيرة بيانات حول تزوير في فواتير المستوردات المقدمة للجهات الحكومية، بما يتيح الحصول على كمية أكبر من الدولار مقابل استيراد مواد أقل، ومعلومات أخرى في اوقات سابقة عن القيام بالاستيراد لصالح العراق بالقطع السوري، أو حصول تجار على مبالغ من القطع أكبر من الحد المسموح، والعديد من مخالفات شركات الصرافة. كل هذه العمليات تؤدي إلى تدفق الدولار إلى السوق السوداء، وخسارة كبيرة في القطع الأجنبي.
صرح عصام زمريق رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها لوسائل إعلامية في الشهر التاسع من عام 2012:
«بحسب الجمارك السورية، فإن كمية المستوردات السورية بلغت 100 مليون دولار، وكان المركزي في هذا الشهر قد ضخ في السوق 150 مليون دولار، فأين ذهبت الـ 50 مليون دولار الأخرى وأين اختفت، بعدما تم ضخها في السوق، هل تم استخدامها في المضاربة؟»
50 مليون دولار في شهر واحد انتقلت إلى السوق السوداء، تشير هذه الأرقام مع غيرها من الوقائع إلى أن تمويل جميع المستوردات مع ضخ الدولار بالسوق سياسة تؤدي بشكل أو بآخر إلى تحويل جزء هام من الاحتياطي إلى السوق السوداء وإلى كبار التجار، وتنقل بالتالي جزءاً هاماً من الوزن الاقتصادي إلى هؤلاء، حيث أن انخفاض قيمة الليرة سيؤدي خلال الفترة القادمة إلى تحويل القوة الاقتصادية التي تملك أكبر قدر من الاحتياطي إلى القوة الرئيسية المتحكمة بالاقتصاد السوري.. فإلى متى يستمر هدر الاحتياطي غير المدروس..!؟