بيض المائدة في «مهب التصدير..»
على عكس ما يتخيل كثيرون، فإن ضبط الأسواق لا يرتبط بعمل وزارة بعينها، ولا تتحمل هي وحدها وزر مسألة انفلات الأسعار، لأن فاعليتها ترتبط بعمل عدد من الوزارات، إن لم نقل بمجمل الأداء الحكومي.
وهو الكفيل بإحداث تغير في حالة الأسواق؟! فالسماح بتصدير منتج محلي غير فائض عن حاجة السوق سيخلّ بمعادلة العرض والطلب، وسيؤدي لارتفاع الأسعار حتماً، فإذا سلمنا بأن غياب الرقابة على الأسواق هو جزء من مشكلة الارتفاع الاعتباطي للأسعار، فإن قرارات السماح بتصدير الكثير من المنتجات الزراعية والحيوانية في ظروف الأزمة، على الرغم من تراجع الإنتاج، قد ساهمت بشكل فعلي في تعقيد مشكلة ضبط الأسعار، لتضيف اختلالاً آخر إلى الأسواق كان بالإمكان تفاديه، وكيف ستكون الحال إذا ما اجتمع غياب الرقابة وفقدان الدور الاقتصادي للحكومة في الأسواق بشكل شبه كامل معاً؟!
قرارات خاطئة
لا يمكن إنكار الفلتان المخيف الذي تعيشه الأسواق المحلية، أو جنون الأسعار الذي بات سيد الموقف، والذي لا يمكن تحميله للأزمة وحدها كما يستسهل القول بذلك البعض، بل إن قرارات بالجملة أتت لتضاعف الخلل في الأسواق المترهلة أساساً، وهذا ما دفع بالقرار الحكومي إلى اللهاث خلف استيراد منتجات زراعية وحيوانية صدّرنا منها بالماضي الشيء الكثير، فقرارات التصدير تمت دون أدنى دراسة لإمكانيتها، ودون الوقوف على حاجة السوق الداخلية، وهذا ما ضاعف من أزمة توفر المواد في الأسواق، وزاد من أسعارها..!
فقد اتخذت الحكومة عدة قرارات هددت فيها الاكتفاء الذاتي للسوق الداخلية من المنتجات الزراعية والحيوانية، وساهمت في رفع أسعار تلك المواد، حيث تم - على صعيد التدليل لا الحصر - السماح خلال العام الماضي 2012 بتصدير 250 ألف طن من البطاطا، كما سُمح بتصدير 300 ألف رأس من أغنام العواس، وتم تصدير 475 مليون بيضة خلال العام الماضي، كما تم تصدير مادة الفروج الحي والمذبوح أيضاً، وهذا أتى في الوقت الذي شهدت فيه أسعار البيض والفروج والبطاطا ولحم العواس موجات ارتفاع متلاحقة في الأسعار، أي أن القرار الحكومي أتى ليصب زيت التصدير على نار الأسعار الملتهبة في الأسواق، بدلاً من تجميد التصدير..
شرطان ملازمان للتصدير!
قد يخرج علينا من يتحدث بأهمية التصدير لما يقدمه من نقد أجنبي للبلاد، إلا أن القضية يجب أن تقاس في ضوء عاملين ثالثهما قد يكون زيادة الاحتياطي من النقد الأجنبي، فالأول، هو حقيقة الكميات المنتجة من هذه المواد في ظل الظروف الحالية، وهل تسمح تلك الكميات بالتصدير؟! أم أن ذلك سيتم على حساب تفريغ السوق الداخلية من تلك المنتجات الزراعية والحيوانية؟! أو في أحسن الأحوال، تقليل المعروض منها في الأسواق!!.. والعامل الثاني، هو التأثير السلبي الذي أحدثه تقليل العرض قياساً بالطلب على معادلة الأسعار في الأسواق الداخلية؟! وهذه هي المقاييس التي يجب أن تضعها السياسات التصديرية أولوية في حساباتها قبل أي شيء آخر..
الإنتاج يلبي 80% من حاجة السوق
قد يقول قائل: «إن التصدير قد انخفض في عام 2012، فلمَ تصرّون على الحديث عنه كعامل عدم استقرار في الأسواق؟».. فنحن إذ نعترف بانخفاض التصدير، ولكننا نسأل: كم انخفض الإنتاج في المقابل؟! ألا يجب أن يكون هو المؤشر؟! وهل من دراسة لحاجة السوق الداخلية عن اتخاذ قرارات السماح بالتصدير؟! فالأرقام تشير إلى أنه تم في عام 2011 تصدير مليار و245 مليون من بيض المائدة، مقارنة بإنتاج 3.8 مليار بيضة عام 2011، وهذا يعني أن حاجة السوق الداخلية في حينها كانت بحدود 2.5 مليار بيضة، بينما لم ننتج في عام 2012 بحسب أحسن التقديرات أكثر من 2 مليار بيضة، أي أن كامل الانتاج لا يلبي حاجة السوق الداخلية وفق أرقام الاستهلاك في عام 2011، ولا وجود لفائض في الإنتاج من هذه المادة كما يدعي البعض، وخاصة أن الإنتاج الكلي في 2012، لا يغطي سوى 80% من الاستهلاك الإجمالي لسورية في عام 2011، وهو لن يغطي في أحسن الأحوال أكثر من هذه النسبة في عام 2012، أي أن هناك نقصاً في المعروض من هذه المادة في الأسواق، وهو ما ساهم في رفع سعر صحن البيض أكثر من 40% وفق أرقام النشرة التأشيرية منذ انطلاقتها حتى الآن، ولهذا نتساءل: لمَ جرى السماح بالتصدير إذاً؟! خاصة وأن المنطق يفترض إيقاف التصدير!.. ألا تفترض هذه المعادلة وحدها عدم السماح بالتصدير ولو على حساب بعض المنتجين الذين يمكن التعويض عليهم إذا ما ادعوا الخسارة في مثل هذه الحالات؟! فالتصدير يجب أن يرتبط بالفائض عن حاجة السوق الداخلية، فعن أي فائض يمكن الحديث في مثل هذه الحالات؟!
«شُبهة حكومية»
لم نصدّر في عام 2012 سوى 24% من إنتاج بيض المائدة، بينما تصل هذه النسبة إلى 32.8% في عام 2011، وهذا ما قد يراه البعض تنازلاً من قبل المربين، وتراجعاً عن حصص تصديرية «خوفاً» على السوق المحلية، إلا أن هذا التراجع يعتبر أقل من الطبيعي نسبة ورقماً قياساً بتراجع الإنتاج، ووفقاً لواقع هذا القطاع، فجميع القائمين على هذا القطاع، يعرفون ويعترفون بانخفاض الإنتاج، حيث تشير المعطيات إلى تراجع إنتاج بيض المائدة بنسبة لا تقل عن 50%، خاصة وان مداجن الدجاج البياض تتركز في محافظات حمص 52٪، وريف دمشق 30٪، وهاتان المنطقتان تشهدان وضعاً أمنياً غير طبيعي تعطلت بموجبه حركة الإنتاج، وهذا ما أدى إلى التراجع الحاد بإنتاج البيض، والسماح بالتصدير في ظل هذا الواقع المتردي للإنتاج، ترك علامات استفهام وتساؤلات لم تلقَ إجابات من قبل الحكومة بعد..
وعلى صعيد الشبهات، يبدي الكثيرون دهشتهم من التعاطي الحكومي مع المنتج السوري بمكيالين، فمصلحة مربي الدواجن والأغنام لها الأولوية في القرار الحكومي، وإذا ما تعرضوا لخسائر تقدم لهم التسهيلات، والقروض، والإعفاءات، ويفتح باب التصدير على حساب مستهلكين، بينما لا نجد إجراءات مماثلة إذا ما تعرض مزارعو البندورة والزيتون وأغلب المنتجات الزراعية في مواسم عديدة لمثل تلك الحالات، فكم من الخسائر الكبيرة التي تعرض لها هؤلاء بفعل الجائحات، أو انخفاض الأسعار، ولم تلتفت إليهم الجهات الحكومية، ولم تراعَ مصالحهم، ولم يقل بضرورة فتح باب التصدير حفاظاً على مصالحهم، ولمنع خسارتهم، كما يجري الحديث عن منتجي البيض والفروج مثلاً!..
«تطنيش» المستهلك لخدمة المربين
الإصرار على تصدير البطاطا والبيض وسواهما من المواد الأساسية، أتى في الوقت الذي كانت تشهد فيه تلك المواد موجات ارتفاع في أسعارها، وهذا ما قلل من المعروض منها في الأسواق، وسمح بارتفاع أسعارها بشكل أكبر، وذلك بدلاً من إيقاف تصدير تلك المواد كما تفعل كل بلدان العالم العربية منها والأجنبية مع ارتفاع أسعار بعض السلع في أسواقها، للسماح بزيادة حجم الكميات المطروحة من هذه المواد محلياً، فالسماح بتصدير الفروج على سبيل المثال أو الأغنام أو البيض سيخدم مصلحة عشرات أو مئات أو في أحسن الأحوال عدة آلاف من المربين، ولكن الإيقاف سينعكس إيجاباً على ملايين المستهلكين، كما يفترض المنطق الاقتصادي، ولذلك كان من الأجدى بالقرار الحكومي مراعاة مصالح الملايين على حساب المئات والآلاف، بدلاً من الإصرار على الاستمرار في العمل بعقلية الحكومات السابقة ذاتها..