الاقتصاد الخفي لا يزال يظلل خارطة الاقتصاد السوري ويضللها..
ما يزال اقتصاد الظل يظلل جزءاً غير قليل من خارطة الاقتصاد السوري أسوة بالكثير الكثير من الاقتصادات العالمية، ولكنه في بلدنا ما يزال هناك من يعتم على الحصة الحقيقية له، وحجم الدور الذي يلعبه في الحسابات القومية والناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فهو يقوم بدور المضلل، حيث يحجب حقيقة حجم الاقتصاد وتطوره.. فهل لهذا الاقتصاد من ايجابيات؟! وما هي أخطر سلبياته؟! وهل تساءل أصحاب العلاقة في القرار الاقتصادي عن الأسباب التي أدت لنشوئه؟! والتي ستمثل عقبة دائمة في وجه تنظيمه بالتأكيد؟! كلها أسئلة سيحدد على أساس إجاباتها النظرة إلى دور هذا الاقتصاد الخفي، وضرورة وجوده من عدمه!..
بالتعريف
بالتعريف، اقتصاد الظل هو الاقتصاد غير المنظم، والذي يتضمن كل الأنشطة الاقتصادية لأفراد أو شركات أو منظمات خارج مظلة الإحصاءات الرسمية، لأنها تتم خارج التشريعات التي تضعها الدولة، ولا تلتزم بمعاييرها. ولا تدخل مدخلات هذا الاقتصاد في حسابات الدخل القومي، كما أن مكونات هذا الاقتصاد لا تخضع للتكليف الضريبي أو الرسوم.
ليس بالأمر الصعب التعرف على هذا النوع من الاقتصاد، حيث إن شوارعنا مليئة به في كل زاوية وعلى كل رصيف، فبدءاً من أصحاب «البسطات»، الذين يفترشون أرصفة الشوارع دون استئذان، مروراً ببائعي العلكة والدخان، الذين يمسحون زجاج السيارات على إشارات المرور في شوارع العاصمة دمشق، وبائعي الثقافة والكتب المستعملة وعمال المواسم الزراعية في أقصى الريف السوري، وصولاً إلى التجار الكبار في منطقة الحريقة، والمعامل المنتشرة في محافظة ريف دمشق وسواها من المحافظات السورية، وأصحاب الأعمال غير الشرعية، كالمهربين مثلاً، فهم أيضاً مصنفون ضمن قائمة اقتصاد الظل أيضاً، إذاً فاقتصاد الظل تعبير مطاط، ويحمل في ثناياه الأعمال الفردية الصغيرة التي لا يتعدى قوامها شخصاً واحداً، والمشاريع الصناعية والتجارية الكبيرة التي تستوعب كل منها ما يقارب 100 عامل أحياناً، كما أنه يشمل العمل الشريف والأعمال غير الشريفة في الوقت عينه، العضلية وغير العضلية، والذين يجمعهم أنهم غير منظمين أو خارجين عن القانون بشكل أو بآخر، على الرغم من عدم عدالة تصنيفهم في الخانة نفسها.
تخمينات مخيفة
حجم هذا الاقتصاد من كتلة الاقتصاد السوري الكلية لا يزال موضع تخمينات وتقديرات لا أكثر، لأنه لا يمكن إحصاؤه أو التكهن بحجمه بشكل دقيق، فأغلب منشآتنا الصناعية غير مرخصة، وذلك ينطبق على المشاريع الزراعية في بلدنا أيضاً، وحتى الخدمية والسياحية، كما أن بعض المرخص منها هو بشكل أو بآخر يمكن تصنيفه ضمن اقتصاد الظل، فهو يمتلك ترخيصاً نظامياً إلا أن دفاتر حساباته تعاني من تهرب ضريبي كبير، وعمالته قسم منها أو كلها غير مسجلة في سجلات التأمينات الاجتماعية، إذا فهو اقتصاد ظل في جزء منه أيضاً.
900 مليار ليرة الحجم التقديري للقطاع الاقتصادي غير المنظم في سورية، لأن التقديرات الحكومية تحدده بـ35% من الحجم الإجمالي للاقتصاد الوطني، أي ثلث حجم الناتج المحلي حالياً، أما إذا أردنا حسابه على أساس تقديرات الاقتصاديين السوريين، فإنه يمكن القول إن كتلة هذا الاقتصاد تصل إلى 1200 مليار ليرة سورية، وهذا يعني أن الدخل الوطني سيتضاعف إذا ما تمت عملية تنظيم هذا الاقتصاد، وكذلك سيتضاعف حجم الضرائب التي تدخل خزينة الدولة أيضاً.
فالقطاع الخاص هو عنوان اقتصاد الظل إذاً، لأنه وانطلاقاً مما قاله وزير المالية د. محمد الحسين خلال الجلسة الأولى من المنتدى السوري ـ الكويتي الأول للاستثمار، فإن القطاع الخاص يساهم بنحو 70% من الدخل الوطني، بينما لا تتعدى نسبة مساهمة هذا القطاع في مجال الضرائب والرسوم 30% بحسب آخر التقديرات، ومن هنا يتبيّن لنا حجم الفارق الكبير بين الحجم الكلي لهذا القطاع في الاقتصاد الوطني وحجم مساهمته الضريبية بما لا يتجاوز الثلث تقريباً.
ويضاف إلى التدني في حجم المساهمة الضريبية، غياب تسجيل عمالة هذا القطاع في مؤسسة التأمينات الاجتماعية والعمل، والتي تتراوح حسب المؤسسة بين 30 – 50% من عمال هذا القطاع، بينما تقدر الإحصاءات غير الرسمية حجمهم بنحو 70%، فالقطاع غير المنظم يفوت على خزينة الدولة موارد ضريبية كبيرة من أماكن مختلفة، سواءً من جانب التهرب من الضرائب المفروضة على الإرباح، فيما لو كان هذا القطاع منظماً، أو الضرائب التي كان يتوجب أن تحصل عليها مؤسسة التأمينات الاجتماعية والعمل، لتأمين العاملين من جهة، وتوظيف هذه المبالغ في مشاريع استثمارية من جهة أخرى، إذاً فالضرائب بمجموعها قادرة - إذا ما تم تحصيلها وتنظيمها- على مضاعفة رواتب السوريين بالحد الأدنى، لا بل تحسين المستوى المعيشي لعموم السوريين أيضاً.
الحاجة ترسخ اقتصاد الظل
بالطبع لاقتصاد الظل -بمعظم مكوناته- سلبيات لا يمكن إنكارها، كالتهرب الضريبي، وغياب التأمين على العاملين، ولكن لا بد من التساؤل في المقابل عن الايجابيات التي يحققها هذا القطاع الخفي، وهل نحن بحاجة إلى هذا النوع من الاقتصاد؟! وإذا لم يكن موجوداً فما هو البديل المقترح حكومياً؟! ولا تنفي هذه الحاجة في الوقت عينه ضرورة تنظيمه مستقبلاً بالتأكيد، فاقتصاد الظل يساهم في تقليص نسب البطالة عبر توفير فرص العمل، خصوصاً وأن الإحصاءات تشير إلى أن هناك نحو 3 مليون سوري يعملون في هذا القطاع اليوم من أصل 5.5 مليون شخص، وهذا يعني أن القضاء على اقتصاد الظل يعني إلغاء 3 مليون فرصة عمل لما يقارب مليون أسرة سورية، أي ما يقارب خمس الأسر السورية بالحد الأدنى، فالاقتصاد غير الرسمي يعتبر المصدر الأول لامتصاص الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وهذا معترف به، ومن جهة أخرى، فإن الدخل الذي يقدمه القطاع غير المنظم يرفع من دخل الأسر الفقيرة ذات الدخل المتدني، وبالتالي فإنه يزيد إمكانية وسوية إنفاق هذه الأسر، ويساهم وبالتالي في تحسين مستوى معيشة هذه الأسرة.
فالحاجة لتحسين مستوى المعيشة هي التي تدفع باتجاه ترسيخ اقتصاد الظل والحفاظ عليه موضوعياً، وإنهاؤه دون حلول بديلة عادلة تعني حرمان هذا الكم الكبير من الأسر من مصدر أساسي وضروري للدخل غير قادرين على الاستغناء عنه، أو استبداله ببديل غير متوفر أساساً!..
لسنا الوحيدين
اقتصاد الظل لا يقتصر على سورية فقط، حتى وإن كان حجمه لدينا الأكبر تقريباً بين الاقتصادات العالمية، حيث يقدر الخبراء حجم هذا الاقتصاد في دول منطقة اليورو بنحو 17% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني أن هناك نحو 260 مليار يورو خفية في هذا الاقتصاد غير خاضعة للضرائب أو التشريعات والقوانين، أما بالنسبة لسويسرا، فان قيمة اقتصاد الظل تصل إلى 130 مليار فرنك سويسري تقريباً، أي أنها تستأثر بنحو 9.6 % من الناتج الإجمالي المحلي لها.
وبالانتقال إلى حجم هذا القطاع في الدول العربية، نجد أنه يشكل نحو 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، بقيمة تقديرية تصل إلى نحو 75 مليار دولار، بينما يستوعب هذا القطاع نحو 60% من اليد العاملة المصرية، أي أن حال قطاعنا غير المنظم شبيه إلى حدٍ ما بواقع الاقتصاد ذاته في مصر، فالاقتصاد غير المنظم في الدول النامية أكبر منه بالدول المتقدمة قياساً بنسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي، ولهذا تبعاته في تخفيض الحصيلة الضريبية، وتشوه المعلومات حول معدلات البطالة وحقيقة النمو الاقتصادي الحاصل.
التنظيم وارد..
الاكتفاء بالإحصاءات الدورية التي تقوم بها بعض الجهات الحكومية على أمل بناء الثقة مع أصحاب المنشآت المصنفة في اقتصاد الظل أمر ضروري، ولكنه غير كاف، لأن الإحصاء وحده لن يؤدي إلى إيجاد الحلول الضرورية لتنظيم هذا القطاع الاقتصادي، ولن يمكن هذا الأسلوب من إدخال هذا الاقتصاد في الاقتصاد الحقيقي أيضاً، كما أن المطاردة اليومية التي تقوم بها البلديات ودورياتها، وبعض الجهات الإدارية في المحافظات السورية لقمع هذا النشاطات غير القانونية لن تكون كافية أيضاً، ولن تجدي نفعاً، وهذا ليس من باب اليأس أو القبول بالأمر الواقع، ولا من باب القول بعدم ضرورة تنظيم هذا النوع من الاقتصاد، لا بل إن الحاجة هي التي ترسخ – في أغلب الأحيان - هذا الاقتصاد، فإنهاء وجوده أمر شبه مستحيل في ظل الظروف والسياسات المتبعة، لكن تنظيمه وارد وممكن بالتأكيد، ولكن بشروط، أولها أن يتم ذلك التنظيم على مراحل بما يراعي الأسباب التي أدت لنشأته، وضمن شروط تساهم وتدفع إلى تنظيمه لا إلى زيادة تعتيمه وإخفائه.