استيلاد (الكبار).. صناعة حكومية قانونية

استيلاد (الكبار).. صناعة حكومية قانونية

المتعهد، السمسار، رئيس لجنة المناقصات/ المشتريات/ المبيعات، المدير المالي وحتى المدير العام مسميات وظيفية أصبحت ترتبط بالذهنية السورية بالمكاتب الكبرى في المؤسسات الحكومية

التي تنطلق منها وترسو فيها (تسويات) تحقق مصالح فئات وسطى وكبرى في الفساد السوري في تقاسم للأدوار بين الجهات التنفيذية في جهاز الدولة وبين جزء من (رجالات الأعمال) السوريين المرتبطين عضوياً بطرق صرف المال العام..
المناقصات، العروض، التعاقد بالتراضي: مصطلحات يسمعها كل من يحتك بالشؤون الإدارية والاقتصادية في سورية وتعتبر واحدة من الثغرات الإدارية والقانونية التي تحقق تشكيل العلاقة السابقة بين وسط الأعمال والتجارة تحديداً وبين الفساد في جهاز الدولة..
كيف تعمل (آلية التعاقد) التي تربط بين (حرامية العام) و (حرامية الخاص)، وإلى أين تطورت هو ما نحاول تغطيته في قراءتنا (لنظام العقود) في سورية كحلقة هامة في تشكيل الفساد السوري وحصته التي تبلغ نسبة 30% من الدخل الوطني

أية مؤسسة حكومية/ معمل قطاع عام/ شركة عامة، وفي سياق سير عملها المعتاد تحتاج إلى شراء مستلزمات إنتاج مستوردة أو مستجرة محلياً، تؤمن بمبالغ من مخصصاتها من الموازنات السنوية..
فتأمين السكر على سبيل المثال لا الحصر لمؤسسات توزيعه الحكومية، تأمين المواد الأولية لمعمل الأسمدة، مستلزمات الإنتاج المستوردة لمعمل تاميكو وإلخ .. جميعها أمثلة على الاحتياجات العديدة التي تنفق عليها مبالغ مهمة في الموازنات السورية، هذه العمليات الضرورية لعمل مؤسسات القطاع العام هي أهم "بوابات الفرج التسريبية" للمال العام، وما يسمح بذلك هو القانون السوري الذي يحدد لهذه المؤسسات كيف تقوم بعمليات شراء مستلزماتها وتأمين احتياجاتها، الذي يلزمها بالبحث عن "متعهد" يقوم بعمليات الشراء عنها.. وهو القانون /51/ الصادر بتاريخ 24/11/2004 المسمى بـ "نظام العقود".

مناقصات وعروض.. وولادة (المدراء السماسرة)
لماذا لا تستورد المؤسسات الحكومية وتحديداً الشركات التي تمتلك صفات اعتبارية بشكل مباشر موادها أو تقوم بشرائها من السوق المحلية؟ سؤال مشروع يجيب عليه القانون المذكور الذي يحصر عمليات "الشراء المباشر" بالمستلزمات التي لا تتجاوز قيمتها 100 ألف ل.س ويسمح بتوسيعها لـ 300 ألف ل.س بموافقة رئاسة مجلس الوزراء، أي يستطيع معمل قطاع عام أن يشتري بشكل مباشر وبلا وساطة القطاع الخاص فقط ما قيمته 100 ألف ل.س، لتترك عمليات الشراء الكبرى محصورة بضرورة "اختيار" متعهد يقوم بالعملية، وفق ثلاثة احتمالات لأشكال التعاقد: المناقصات، طلب العروض، المسابقات، التعاقد بالتراضي..
كل من المناقصة وطلب العروض تقوم على أساس اختيار متعهد وحيد من جملة متعهدين مرشحين للقيام بعمليات تأمين الحاجيات الحكومية، إلا أن المناقصة تكون في المواد المحددة بشروط دقيقة وموحدة وفق دفتر شروط عامة، (أسعار وكميات تقدرها الجهات العامة)، أما طلب العروض فيكون عندما يتعذر على الجهة العامة تحديد المواصفات والشروط الموحدة للاحتياجات المطلوب تأمينها ليطرح المتعهدون عروضاً بمواصفات وأسعار المواد التي سيؤمنونها، ليتم الاختيار بين مجموعة من العروض.
وفي الحالتين اختيار "المتعهد الرابح" يكون من لجنة مناقصة يسمح أن تتكون من ثلاثة أعضاء وبينهم آمر الصرف (يسمى عاقد النفقة وهو غالباً مدير عام الشركة أو المؤسسة أو الجهة العامة) ويفترض أن يكون من بينهم محاسب الجهة العامة أو المدير المالي أو من يعمل تحت إشرافهم.
ربح (السمسار)
إذاً اختيار التاجر المتعهد يكون من لجنة تحدد داخل المؤسسة أو الجهة العامة ويمكن تضييقها إلى ثلاثة أعضاء فقط ومن بينهم المدير العام.. تختار وفق العرض "الأقل سعراً والأعلى جودة" وقراراتها نهائية، تتخذ بالتصويت. هذا الشكل من اللجان المحدودة والمحصورة والمرتبطة بمواقع تنفيذية هامة في المؤسسات العامة هو مصدر الرشاوي الكبرى، ويسمح هذا لأعضاء هذه اللجان، إن كانوا من ضعاف النفوس، بتشكيل "ثروات سمسرة" نتيجة ميزة الموقع التنفيذي، حيث التاجر الأكثر دفعاً هو من ترسو عليه المناقصة وخاصة أن تقديرات السعر تكون من اللجنة ومن آمر الصرف بشكل رئيسي، وهو ما يشكل أهم مصادر الثراء السريع لموظفين كبار في المؤسسات الحكومية..
التعاقد بالتراضي.. الشكل الفج
إذا ما كانت المناقصات وطلبات العروض تقيد عمليات الرشوى "نسبياً" من خلال الاختيار ضمن شروط تحددها الجهة العامة، فإن التعاقد بالتراضي هو تعبير عن علاقة مباشرة بين التاجر أو المتعهد وبين المؤسسة، حيث يجيز القانون للجهة العامة أن "تتعاقد بالتراضي مع من تختاره بنتيجة الاتصالات المباشرة التي تجريها" بحسب القانون، وذلك "عندما تكون احتياجات الجهة العامة المطلوبة محصوراً صنعها أو اقتناؤها أو الإتجار بها أو تقديمها أو استيرادها بشخص معين أو شركة معينة أو جهة معينة"
وهذه الحالة هي تعبير عن الوزن النوعي لكبار محتكري استيراد أو عرض مواد معينة الذين تزداد سطوتهم بإخراجهم من "المنافسة" وانتقائهم بشكل أحادي من متنفذي جهاز الدولة وبطريقة مشرعة قانونياً..
حصص متروكة (للنزاهة)
إذا ما كان القانون والآلية المتبعة في عملية تأمين احتياجات الجهات العامة تسمح بتشكيل الدور الوظيفي "للمدير السمسار" فإنها تساهم أيضاً في زيادة وزن كبار التجار المحتكرين، فالمتعهد القادر على تأمين مستلزمات لجهة عامة، ولنقل مثلاً (تأمين كميات تتجاوز200 ألف طن سكر سنوياً لمؤسسات التدخل الإيجابي) ترسخه هذه العقود كأحد أهم مستوردي المواد في سورية، والقانون المذكور لا يذكر عن نقطة شديدة الأهمية وهي حصة المتعهد الذي يقوم بالعملية، ولا يحدد نسبة أو قيمة للعمولة، متغافلاً عن هذه النقطة الهامة التي تترك لتحددها اللجان أو التي تعمل وفقاً عرف عام لا يلامسه القانون، بل يتركه ليتحدد وفق قوانين "النزاهة والحرص" التي تحكم سلوك اللجان والإدارات العليا لجهاز الدولة في سورية..

تقدير افتراضي.. للسمسرة والريع

• بأخذ مجموع استيراد القطاع العام لعام 2010 البالغ: 205 مليارات ل.س
• وبفرض أن نسبة 75% منها  تتم عن طريق المتعهدين وفق نظام العقود.
153 مليار ل.س استيراد عن طريق التعاقد مع القطاع الخاص.
بفرض:
• حصة السماسرة 15%         قيمتها 23 مليار ل.س
• حصة التجار 25%                 قيمتها 38 مليار ل.س
مجمل حصة السمسرة والتجار: 61 مليار ل.س وتبلغ 30 % من قيمة تجارة القطاع العام في عام واحد.

تطورت ظاهرة "المتعهدين الخاصين لمصلحة القطاع العام" في سورية لتصبح أحد المحددات الناظمة لتعيين المدراء العامين أو المفاصل التنفيذية في جهاز الدولة، وتوسع حجم ووزن المتعهدين الكبار وتقلص عددهم ليضطروا إلى تشغيل واجهات وأسماء تجارية جديدة تقوم بالتعاقد بالنيابة عنهم، في منظومة متينة من العلاقات تسرق المال العام بين كبار "المدراء السماسرة" في جهاز الدولة، وبين كبار السوق المتحكمين بتجارة العام والخاص.. محمية بالأعراف الاقتصادية سابقاً، ثم شرعتها القوانين الاقتصادية والإدارية التي وضعت في سنوات الليبرالية واقتصاد السوق..