بين أزمة اليوم وأزمة الثمانينيات.. أين نتجه؟
الأزمة الاقتصادية الحالية كنتاج للأزمة الوطنية العامة بشكل مباشر لها قاعدة مكونة من سلسلة من التأزم الاقتصادي الناجم عن خلل كبير في النماذج الاقتصادية السورية التي كانت مع كل انكشاف لأزماتها تنقل مراكز القوى الاقتصادية والاجتماعية من مستوى إلى آخر ناقلة معها جهاز الدولة من انحراف إلى انحراف أشد.. ..
وكان الاتجاه العام هو نقل القرار الاقتصادي السياسي إلى مصلحة القوى التي كانت مع كل أزمة يشتد عودها مع تغيير في بنيتها، ليصل إلى الحد الذي يتماهى فيه سلوك جهاز الدولة مع مصلحة القوى الاقتصادية الكبرى وهي قوى الفساد بلا منازع.. بهذه البنية دخلنا الأزمة الوطنية العميقة التي نشهدها اليوم.. حيث يتماهى القرار والتنفيذ في جهاز الدولة مع منظومة محكمة من قوى الفساد التي أخذت مواقعها في المفاصل الاقتصادية الأساسية كالنفط والتجارة الخارجية كأبرزها، والتي امتلكت أن تسلب جهاز الدولة حصة هامة في قطاعات سيادية كالاتصالات والمرافئ والإنشاءات..والتي أصبحت من الثبات خلال العقد الماضي بحيث أنها تتشابك بقوة كبيرة مع السوق ومع جهاز الدولة حتى لتبدو الاختلافات في المصالح واهية.. وهذا ما يعيق بشدة محاولات «فرط» هذه البنية المرصوصة، ويدفع للتساؤل تفكيكها بأي اتجاه
الثمانينيات السورية أزمة سابقة
في نموذج سابق لأزماتنا الاقتصادية تعتبر أزمة الثمانينيات الأقرب إلى اليوم، حيث تتقاطع معها من حيث المعالم التأشيرية الرئيسية حيث انحدر معدل نمو الإنتاج المحلي منذ بداية الثمانينيات من 10.5% سنوياً في عقد السبعينيات لينخفض إلى 1.8% فقط عام 1983 بل إنه سجل تراجعاً مستمراً مقداره (3% سلبي) سنوياً بالمتوسط منذ العام 1984، بينما كان مقدار معدل النمو المستهدف في الخطة الخمسية الخامسة (1981-1985): 7.7% لم يتحقق منه أكثر من 1.8%، بالإضافة إلى تقلص إيرادات القطع الأجنبي بشكل كبير حيث تقلصت موجودات المصرف التجاري السوري منه في العام 1987 إلى حوالي (71 ألف) دولار فقط. وهبطت نسبة القطع والذهب الموجود في التغطية منذ عام 1980 إلى مادون الحد الأدنى المسموح به 10% إلى 7%، ليصل إلى معدل 2% في أواخر عام 1985. بالإضافة إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار ومعدل التضخم بمستويات بلغت بتقديرات البعض حدود 316% والتي تجاوزت تقديرات البنك الدولي الذي قدرها بنسبة 100%، بينما أدى التضخم إلى خسارة الليرة السورية لـ 90% من قيمتها الشرائية في عقد الثمانينيات..
توازن القوى حينها
في مواجهة تلك الأزمة طرحت كل الخيارات التي تعبر عن مستوى توازن القوى الاقتصادية والاجتماعية في تلك اللحظة والذي سمح لجهاز الدولة وأصحاب القرار بالظهور بمظهر الحكم النهائي الذي اختار الطريق المركب القائم على عدم اعتماد سياسات البنك الدولي في الإصلاح الاقتصادي التي كانت نتائجها تظهر في مصر بشكل حاد، لكن مع اعتماد منهج تحرري انتقائي ركب ما بين استمرار الدولة بسياسة التثبيت النقدي بينما ولّت القطاع الخاص الجانب الأكبر من العرض السلعي استيراداً وإنتاجاً، لتنجم سياسة اعتمدت الانطلاق من التصدير كأولوية لزيادة إيرادات القطع، موظفة مقدرات القطاع العام والخاص في هذه العملية.. ولكنه كان يسوّف المشاكل بشكل أساسي ليحلها ريع النفط الخفيف لاحقاً.. لم تسمح بنية جهاز الدولة في تلك المرحلة بعد عقد السبعينيات الذي تميز بتضخيم كبير للجهاز الحكومي أن يتم الانتقال سريعاً بالاتجاه الليبرالي إلا أنها وطدت لمنهج تحرري تمت صياغته والتسويق له في تلك المرحلة باستقدام فريق خبراء مهني ليبرالي قاده الاقتصادي الليبرالي السوري نبيل سكر، لتظهر معالمه في التسعينيات وما بعد ابتداء من قانون الاستثمار رقم (10) وصولاً إلى اقتصاد السوق الاجتماعي.. الذي كانت هذه الوجوه أبرز المسوقين له، بين صياغة المعالم الأولى والانتقال إلى التنفيذ ما بعد عام 2000 كانت تنضج القوى الاقتصادية -الاجتماعية التي تخدمها الليبرالية ليظهر المحتكرون الكبار الجدد الذين سحبوا مقدرات هامة من جهاز الدولة المركزي السابق ونقلوها إلى السوق مع احتفاظهم بالهيمنة وأدواتها السياسية والاقتصادية في تحالفات متينة تستمر حتى اليوم..
أزمة اليوم..بأي اتجاه
مستوى هيمنة قوى الفساد لم يسمح بوضع طروحات متباينة في كيفية إدارة اقتصاد الأزمة السورية الحالية إلا لوقت متأخر، والطروحات المتباينة التي تدفع نحو الجديد من القرارات والتوجهات تشق طريقها ضمن محدد أساسي يفرضه الواقع هو الابتعاد عن الليبرالية بكافة مستوياتها، نظراً لكون مستوى التشابك بين السوق وقوى الفساد وصل حد التماهي كما ذكرنا، مستخدماً جهاز الدولة للحد الأقصى.. وقد وصل هذا التشابك اليوم بين قوى الفساد والسوق وجهاز الدولة حداً وصل إلى جعل الجبهة الاقتصادية إحدى أجدى أدوات الحرب، ليبدو جهاز الدولة كأنه يدمر ذاته بذاته، وذلك بالسير وفق مصالح قوى الفساد الكبرى التي أصبحت تتناقض مع محددات حساسة في الاقتصاد السوري كبقاء العملة الوطنية أم انهيارها، وبقاء الدعم الاجتماعي الخيط الأخير في علاقة الدولة مع المجتمع أم لا..
لذلك فإن أزمة اليوم لن تستطيع أن توجد حلاً توافقياً فإما أن ننتقل إلى مواجهة قوى الفساد مع ضبط قوى السوق واستعادة جهاز الدولة كخطوات لا تنفصل عن بعضها البعض، وإما أن تستمر عملية التدهور الاقتصادي.
مستوى تحالفات وهيمنة قوى الفساد اليوم يتعدى تحالفاتها وهيمنتها في الثمانينيات، ولذلك لن تستطيع الخروج من أزمتها نحو تغيير في البنية إلا بمساعدة الخارج لها، وتلك عملية ستكون مؤقتة إن تمت.. لان مستوى الأزمة الاقتصادية في الاقتصاد السوري يفرض من الآن السير بخطوط أخرى تشق طريقها في معركة إنقاذ الاقتصاد السوري..
معالم لتغيير سياسات التحرير التجاري
الأزمة الاقتصادية اليوم التي وصلت إلى تأمين الغذاء والمواد، تفرض بهذا المستوى من الاستحقاقات أن يستعيد جهاز الدولة زمام المبادرة المسحوبة منه خلال عقدين ماضيين لمصلحة قوى السوق، ففي مواجهة سياسات التحرير عموماً والتجارية بشكل خاص.. تولد اتجاهات بديلة لا تزال قرارات ولكنها محددات سير عامة، سيكون اشتداد الأزمة كفيلاً بترويض من يحاول منعها عن السير نحو التنفيذ، تبدأ من نقطتين أساسيتين الأولى وجهة العلاقات التجارية والتي تدفع الأزمة نحو خرق في واحدة من قواعد الفساد الأساسية وهي التجارة الخارجية مع الغرب، باتجاه الشرق وبطرق دفع ائتمانية تعيق بحد ذاتها عملية السمسرة نتيجة غياب العملة أنياً في التداول ..والثانية هي في اللاعب التجاري الرئيسي في لحظة الأزمة وهي العملية التي تشق طرقها نحو استعادة دور الدولة الرئيسي في التوزيع..
ممكن أن نجمل مجموعة من القرارات التي تدل على تثبيت السير العام وفق الأساسين السابقين:
1- استعادة الدولة دوراً في التوزيع: التدخل بالمستوردات الأساسية، وذلك بعد قرار وزارة الاقتصاد بقيامها باستيراد المواد والسلع الغذائية الأساسية.
2- تخفيف أعباء الموازنة الآنية: عن طريق فتح الخطوط الائتمانية التي تعتمد مبدأ الإقراض مع الدول الصديقة كإيران، وهو ما يؤمن تدفق المواد والسلع مقابل عدم نقص آني في الاحتياطي من القطع الأجنبي.
كلا العمليتين تؤديان إلى تحسن قيمة الليرة السورية من خلال زيادة الكتلة السلعية والمعروض السلعي في السوق السورية، الذي يقلص من الفجوة الكبيرة بين الكتلة النقدية والسلعية التي تقع في جوهر التراجع الحقيقي لقيمة الليرة السورية.
3- العمل على استرجاع جزء من الدعم المسحوب عن طريق الإعلان عن زيادة دعم السلة الغذائية التي تقدمها الحكومة وهو ما يؤدي إلى زيادة نسبية في الأجور الحقيقية، وخطوة باتجاه الشكل المجدي للدعم.
4- قانون العقوبات الاقتصادية وتعديل قانون التموين الذي يدفع نحو إعادة تسعير إداري لجملة مواد استراتيجية.
في كل نقطة من هذه النقاط قرار يعتبر خطوة للأمام، بينما تدفع عمليات تنفيذ القرار إلى تأريض هذه القرارات إلا أن مستوى تصاعد الأزمة الاقتصادية واستحقاقاتها يدفع تلقائياً لأن يكون الانتقال إلى التنفيذ والتوسع به هو مسألة وقت.