الخصخصة «خطوة استباقية».. للفساد المحلي الكبير
قضية نقص الموارد أحد العناوين الرئيسية للتصعيد الحكومي في مواجهة الدعم، وفي مواجهة الإنفاق الحكومي. على الرغم من افتراضنا الدائم بأن الهدف من رفع الدعم أو غيره من ضغط النفقات يتجاوز الأهداف الجزئية المطروحة حكومياً (كتخفيف الإنفاق، وعجز الموازنة، وتزويد الحكومة بالموادر لمواجهة الأزمة أو أو.. ) وعلمنا بأنه يعود إلى وجود أهداف أو التزامات أبعد من ذلك كالالتزام ببرنامج الإسكوا على سبيل المثال حول «تعبئة الموارد» كما ناقشنا في عدد قاسيون 604، أو بالعام أكثر يهدف لتقديم ضمانات من قوى القرار السياسي-الاقتصادي في سورية بعدم الحيد عن الخط الليبرالي اقتصادياً وتحديداً مع اقتراب الحلول السياسية ببعدها الدولي في سورية..
إلا أن الالتزام الليبرالي قبل المفاوضات لا يفسر بالبعد السياسي فقط وإنما كي يتم التوافق عليه ينبغي أن يقدم الفائدة للفساد المحلي الكبير بفئاته المتنوعة، أو أن لا يتعارض على الأقل مع توزيع النهب السابق.. وكما يعلم الجميع فإن الدعم عموماً ودعم المشتقات النفطية خصوصاً يشكل بطريقة توزيعه السابقة بوابة رئيسية من بوابات النهب..لذلك فإن التوافق على التصويب على إلغاء هذا الدعم يخفي تحويل طريقة النهب إلى موضع آخر، بما يتوافق مع التوجه الليبرالي الذي لا يزال ينبض بقوة في جسد الاقتصاد السوري بعد كل الأزمات الاقتصادية..
الخصخصة قبل.. خلال.. والآتي أعظم
الخصخصة أحد أهم معايير الليبرالية وهي تقابل بشكل مباشر ضعف دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وبالتالي ضعف جهاز الدولة عموماً. إذا استطعنا أن نبسط الأمور وفق ترتيب زمني:
قبل الأزمة: سورية خلال الألفية شهدت مشروعاً ليبرالياً استهدف تحويل دور الدولة المركزي المشوه في النموذج الاقتصادي السابق بعد أن تحولت مصلحة جزء من قوى الفساد نحو شكل آخر خارج هذا الجهاز، حتى وصل ضعف الدور الاقتصادي للدولة إلى خصخصة قطاعات أساسية كالاتصالات والمرافئ، لينتج عن هذا التوجه عموماً ويليه مباشرة أزمة وطنية
خلال الازمة: أدت الأزمة الوطنية عموماً إلى تراجع دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي المباشر بالمجمل وإلى زواله في بعض المناطق فتتراجع الموارد وتقل قدرة الدولة على حماية المفاصل الرئيسية التي تتحكم بها كتوزيع المواد المدعومة المحروقات والمواد الاستهلاكية، وتأمين الضمانات للزراعات الاستراتيجية كالقدرة على شراء المحاصيل أو تقديم القروض لها، وآخرها دعم تخفيف الكلف للصناعات الذي كان يتم عن طريق دعم الفيول من جهة، وتمويل مستورداتها من جهة أخرى..
بعد الأزمة: ستكون لحظة ما بعد الأزمة هي لحظة تحصيل المكاسب الناجمة عن تراجع دور الدولة وأخذ مكانها في إدارة القطاعات المفصلية.. وهذا ما تعيه قوى الفساد المحلي وتعمل على استباقه..
الفساد المحلي الكبير..يستبق
تعي قوى الفساد المحلية بأن ضعف جهاز الدولة خلال الأزمة سيتم استثماره من القوى الدولية التي ستدفع نحو برامج اقتصادية ليبرالية جاهزة، ليكون السير نحو خصخصة القطاعات الرئيسية وضمان عدم استعادة الدولة لدور هام أسرع وأسهل. ولذلك ستعمل على استباق الخطوات الدولية لتخصخص في ظل الوضع الحالي الذي تملك فيه هيمنة كبيرة على القرار السياسي- الاقتصادي في سورية القطاعات الأهم والاكثر ربحاً لمصلحتها. لأن الظرف اللاحق قد لا يضمن لهؤلاء التحكم بجهاز الدولة وموارده كما يسمح لهم الآن..
المحروقات.. نموذج القطاع الهدف
تمثل المحروقات وقطاع النفط والطاقة عموماً أحد أهم الموارد السورية، وبالتالي وللأسف أحد أهم موارد الفاسدين الكبار. إلا أن المحروقات التي تستهلك بنسب كبيرة في سورية وينحصر توزيعها بجهاز الدولة على كل القطاعات، تعطي جهاز الدولة موقعاً استراتيجياً في البنية الاقتصادية إجمالاً وتحديداً مع توزيعه مدعوماً، فالدولة بهذه الحالة قادرة على التحكم بمحدد أساسي في المستوى العام للأسعار وبالتالي في الدخل الحقيقي وبمستوى الأرباح.
لذلك فإن المحروقات ستكون هدفاً للخصخصة سياسياً لأن هذا الدور المركزي وقدرة التحكم التي يتيحها توزيع «الطاقة» بسعر مدعوم أو متحكم به من جهاز الدولة، هو مفهوم خارج عن الليبرالية، ولم تستطع سنوات الألفية أن تنتزع من الدولة هذا الدور الهام..
المحروقات والفساد
لم تستطع أجندة الليبرالية قبل الأزمة أن تصل لقطاع المحروقات، ويعود هذا إلى جملة أسباب. والامتناع يعود لجملة من الأسباب إلا أن عاملاً هاماً منها يعود إلى هيمنة قوى الفساد على جزء هام من هذا التوزيع وتحقيق أرباح مضاعفة من الدعم السابق، وهو ما أتاحه لهم ليس آلية الدعم فقط، وإنما ضعف جهاز الدولة عموماً وتغولهم فيه.
لتقدير حجم هذا القطاع وحجم الأرباح المتاحة في حال احتكار التوزيع من قبل قلة، كما ستتيح الخصخصة بكل تأكيد، نستعرض كميات الاستهلاك وتقدير نسبة بسيطة للربح السنوي.
تتغير الصورة اليوم، ففاسدو الداخل لا يستطيعون ضمان بقاء هيمنتهم وتغولهم في جهاز الدولة بالمستوى ذاته وتحديداً مع قدوم «منافسي الفساد من وراء البحار».. لذلك عليهم أن يسرعوا بضمانها خارج جهاز الدولة وأن يستبقوا الخصخصة.. بما يتفق مع الليبرالية ويعطي ضمانات لفساد الطرف الآخر ولأصحاب المشروع الليبرالي العالمي من منظمات دولية وما وراءها من قوى اقتصادية عالمية تضع جهاز الدولة ودوره الاقتصادي هدفاً للتهميش وصولاً للتدمير..
يضيف هذا الاستباق سبباً جديداً لمواجهة رفع الدعم المتجه نحو خصخصة توزيع المحروقات لمنع نجاح خطوة الفساد المحلي الاستباقية الهادفة لاحتكار التوزيع لاحقاً..