مبادرة جديدة في أوكرانيا… هل تتحول إلى فرصة ضائعة جديدة؟
يشهد الملف الأوكراني تطورات متسارعة مع حديث عن قمّة ثلاثية بين موسكو وأوكرانيا والولايات المتحدة، ورغم أن التحضيرات بدأت بالفعل، إلا أن ما نعرفه الآن حول أجندة هذا اللقاء لا يزال قليلاً، وهو ما سيتضح أكثر خلال الأيام القادمة بعد انتهاء لقاء في ميامي الأمريكية، بين الولايات المتحدة وروسيا.
كما هي الحال، تشهد ساحات القتال تصاعداً مستمراً، ففي الوقت الذي تنفذ القوات الروسية ضربات عنيفة على العاصمة الأوكرانية كييف، ومناطق واسعة أخرى، تقوم القوات الأوكرانية من جانبها بتوجيه ضربات مقابلة، لكن السمة العامة الأساسية في الضربات الأوكرانية، هي أنّها تعتمد أكثر فأكثر على غطاء استخباراتي يمكن الجانب الأوكراني من تنفيذ عمليات خارج نطاق قدرات الجيش الأوكراني المنهك، ما بات يدفع البعض للاعتقاد أن الجانب الأمريكي ليس جاداً في الوصول إلى اتفاق، بل يسعى من خلال طرح أفكار كهذه إلى كسب الوقت، وتزويد أوكرانيا بما تحتاجه، إلا أن المشهد لا يكفي للوصول لاستنتاجات من هذا النوع، ففعلياً يظهر وضوحاً أننا أمام تيارين داخل الولايات المتحدة، لدى كلٍّ منهما وجهة نظر مختلفة حول الحرب في أوكرانيا، لكن يمكن أن يكون تمكين الجيش الأوكراني من تنفيذ المزيد من العمليات ضد القوات الروسية، وحتى أن تكون هذه الضربات في ساحات استراتيجية جديدة، مثل: بحر قزوين، والبحر الأبيض المتوسط، يمكن أن يكون مطلوباً حتى من التيار الداعم لإنهاء الحرب، وهذا سلوك مألوف مع اقتراب أي مفاوضات، إذ من شأن ضربات كهذه أن تحسن أوراق الجانب الأوكراني على طاولة المفاوضات. هذا تحديداً ما يبدو حاضراً في النشاط العسكري الروسي أيضاً، فرغم أن عدداً من السفن وناقلات النفط الروسية تعرضت لضربات متزايدة خلال الأسابيع القليلة الماضية، إلا أن الجيش الروسي يظهر ثباتاً كبيراً على الجبهة، ويحرز تقدّماً متواصلاً على كافة المحاور.
آجال قصيرة…
إن طرح قمّة ثلاثية (أمريكية- روسية- أوكرانية) في هذا التوقيت يشير مجدداً إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي لا ترى الوقت في صالحها أبداً، وترى أن بقاء الملف الأوكراني عالقاً يمكن أن ينعكس سلباً على الولايات المتحدة، ففي تصريح للرئيس الأمريكي قال فيه: «آمل أن تتحرك أوكرانيا سريعاً... في كل مرة يطيلون فيها الأمر، تغير روسيا رأيها» يشير إلى واقع لا يمكن إخفاءه، فطرح فكرة المفاوضات يمكن ألا يكون مجدياً في حال تم تثبيت انتصار عسكري روسي ناجز وكامل، عندها لن يكون هناك دور للولايات المتحدة في هذا الملف أصلاً، وستكون موسكو قادرة على تشكيل المشهد إلى حد كبير. لذلك يمكن لنا أن نفهم إلى حدٍ كبير تمسك الجانب الأمريكي بهذه المفاوضات، فرغم أن الحديث عن ضرورة إنهاء الحرب في أوكرانيا بدأ منذ اللحظات الأولى لاندلاع المواجهات، إلا أنّه ظل فعلياً في إطار حدود التصريحات الدبلوماسية، ولم تتسم معظم المبادرات بالجدية الكافية، أو جرى تعطيل مسارات أخرى في مناسبات مختلفة، لكن ما يثير الاهتمام هو أن المبادرات والنقاشات التي يجري تداولها باتت أكثر تسارعاً من أيّ وقتٍ مضى، فمنذ قمّة الأسكا الأمريكية-الروسية لم تنقطع هذه المحاولات سوى مدة قصيرة، ثم عادت بزخمٍ غير مسبوق.
في هذا السياق توجّه كيريل دميترييف، المبعوث الخاص للرئيس فلاديمير بوتين إلى الولايات المتحدة لعقد محادثات مع المبعوث الأمريكي الخاص، ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر. ويبدو من خلال تصريحات زيلينسكي، أن الوفد الأوكراني يمكن أن ينضم إلى المفاوضات بشكل مباشر، فكان قال في وقتٍ سابق: إن «الولايات المتحدة اقترحت عقد مفاوضات مباشرة ثلاثية في ميامي، موضحاً، أن الصيغة المقترحة هي أوكرانيا، أميركا، روسيا»
استبعاد أوروبي…
ما يثير الاهتمام أن استبعاد الجانب الأوروبي من هذه المفاوضات يبدو خياراً جدياً بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا، ويرتبط ذلك إلى حدٍ كبير بالموقف الأوروبي الرافض للتسوية بشكلها الحالي، فبالنسبة للدول الأوروبية التي جرى توريطها في هذا الصراع ستكون آثار إنهاء الحرب كارثية! فمن جهة هناك خسارة عسكرية محققة وإنفاق غير مسبوق، وإن إنهاء الحرب بالشروط التي يجري تداولها حتى الآن، يعني أن الصدمة الكبرى ستكون ذات طابع سياسي، وترتد في أصقاع أوروبا التي ستحصد دولها نتائج كل ذلك.
ما الذي أعاد الحديث عن انتخابات رئاسية أوكرانية؟
كما يبدو أن واشنطن وموسكو تتشاركان الموقف ذاته من الرئيس زيلينسكي، فهذا الأخير هو في الواقع رئيس منتهي الصلاحية، وكان يفترض أن تجري الانتخابات الرئاسية في أيار 2024 لكن فرض الأحكام العرفية في البلاد أجل هذه الانتخابات، فزيلينسكي كان خيار التيار الداعم للحرب في واشنطن، ويرون فيه «الرجل المناسب في المكان المناسب» بينما ترى إدارة ترامب الحالية المسألة من زاوية مختلفة، فصعود زيلينسكي إلى السلطة كان جزءاً من رسمة متكاملة لم تعد مطلوبة من قبل ترامب، بل هناك ضرورة ملحة لتغييرها، إذ يعمل خصوم الرئيس الأمريكي في الداخل على عرقلة جهود ترامب بوسائل مختلفة، منها: قدرتهم العالية على التحكم بسلوك النظام الأوكراني الحالي والدول الأوروبية الأساسية. وهو ما يفسر طرح مسألة الانتخابات من قبل الجانب الروسي، وتبني هذا الطرح أمريكياً، ومطالبة ترامب بإجراء هذه الانتخابات، بل سبق له أن وصف زيلينسكي بأنّه «ديكتاتور بلا انتخابات».
بوتين، من جانبه قدّم مبادرة بدت خطوة استفزازية بالنسبة لزيلينسكي، فتعهّد الرئيس الروسي، بـ «التفكير في ضمان الأمن أثناء الانتخابات في أوكرانيا» وقال: إن الجيش الروسي «سيمتنع عن تنفيذ ضربات في عمق الأراضي الأوكرانية يوم الانتخابات» في محاولة لسحب الذرائع التي يقف زيلينسكي خلفها لتأجيل الانتخابات، وقال في ردّه على طرح بوتين: «ليس
بوتين من يقرر متى وبأي صيغة ستُجرى الانتخابات في أوكرانيا».
إن كثيراً من وجهات النظر التي يجري تداولها، حول الدافع الحقيقي للرئيس الأمريكي لإنهاء الحرب تبدو بعيدة عن الواقع، فهناك ضخ إعلامي شديد، يفيد بأن ترامب واقع إلى حد كبير تحت تأثير موسكو وينفّذ ما يريده بوتين، لكن المسألة مختلفة كليّاً، فالتيار الذي يعبر عنه الرئيس الأمريكي يسعى إلى عملية تحوّل كبرى، في مجمل السياسية الأمريكية، وإن إبقاء الحرب في أوكرانيا يمكن أن يكون عائقاً جدياً أمام هذا التحول، ويمنع إدارة ترامب من الحركة، وهذا يمكننا أن نقول: إنّه سمة أساسية في المشهد الأمريكي الداخلي، إذ أن التناقض الحاد داخل واشنطن يعني في المحصلة عدم قدرة أيّ من الفريقين في السير بالاتجاه الذي يريده، ما يجعل الولايات المتحدة أضعف وغير قادرة على الاستجابة السريعة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1257