الولايات المتحدة ورحلة البحث عن استراتيجية جديدة في أفريقيا
معتز منصور معتز منصور

الولايات المتحدة ورحلة البحث عن استراتيجية جديدة في أفريقيا

تشهد القارة الأفريقية تحولاً جذرياً في علاقاتها الدولية، حيث تعزز نزعتها نحو الاستقلال عن الهيمنة الغربية، وتوسع شراكاتها مع القوى الصاعدة. وفي هذا الإطار، تُسهم السياسات الأمريكية الانكفائية، مثل: تبني مبدأ «أمريكا أولاً»، في تعميق هذا التوجه.

سنرصد في هذا المقال الرسوم الجمركية الأمريكية على الدول الأفريقية، وكذلك قرار الولايات المتحدة الأمريكية إلغاء القمة الأمريكية- الأفريقية المزمع عقدها في الخريف القادم من هذا العام.

إلغاء القمة: إشارة واضحة على تراجع الأولوية

كان من المقرر عقد القمة الأمريكية-الأفريقية في كانون الأول 2025 على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفقاً لالتزام من الكونغرس تم تجديده عام 2024، يُلزم الرئيس الأمريكي بعقد مثل هذه القمة خلال عام من دخول القانون حيز التنفيذ. لكن مصادر في البيت الأبيض والكونغرس كشفت أن إدارة الرئيس دونالد ترامب قررت عدم عقد القمة، بحجة «ضيق الوقت» و«عدم أولوية القارة في جدول الأعمال».

هذا القرار لا يُعدّ مجرد تأجيل تقني، بل مخالفة رسمية لقوانين البلاد، ويُرسل رسالة مفادها أن أفريقيا لم تعد تُعتبر شريكاً استراتيجياً في الرؤية الأمريكية للنظام العالمي. في لحظة تبحث فيها القارة عن تعزيز حضورها ووزنها في المحافل الدولية، يُقابل هذا الجهد بتجاهل دبلوماسي يُعيد تذكيرنا بمنطق الهيمنة الذي ساد لعقود.

الرسوم الجمركية

في 2 نيسان 2025، أصدر الرشئيس ترامب سلسلة أوامر تنفيذية استندت إلى قانون الطوارئ الاقتصادية الدولية لعام 1977، مُعلناً حالة طوارئ وطنية لـ «مواجهة العجز التجاري». وشمل القرار فرض رسوم جمركية بنسبة 10% على جميع الواردات من 190 دولة، مع إضافة رسوم «متبادلة» على الدول ذات العجز التجاري الكبير مع الولايات المتحدة.

الأثر المباشر كان على اتفاقية النمو والفرص الأفريقية (AGOA)، التي منحت نحو 38 دولة أفريقية إمكانية تصدير منتجاتها إلى السوق الأمريكية دون رسوم جمركية، مقابل تدخل أمريكي في الشؤون الداخلية الأفريقية تحت عناوين «الالتزام بمعايير الحكم الرشيد» و«دعم الاقتصاد الحر». هذه الاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ عام 2000، ساعدت بعض الدول الأفريقية على بناء قطاعات صناعية صغيرة، وخلق فرص عمل، ودخول السوق العالمية من الباب الأمريكي.

لكن مع فرض الرسوم الجديدة، فقدت هذه الدول ميزتها التنافسية، وارتفعت تكاليف صادراتها بشكل حاد. وبحلول آب 2025، ارتفع متوسط الرسوم الجمركية الأمريكية إلى 18.6%، مقابل 2.5% في بداية العام، وهو أعلى معدل منذ مئة عام، هذه القفزة تُعدّ ضربة قوية لاقتصادات هشة، وتُقوّض جهود التنمية، ولكنها في الوقت نفسه تفتح الباب واسعاً لاقتصادات الدول الأفريقية -بما تملكه من ثروات باطنية وتنوع اقتصادي- على بناء علاقات اقتصادية والبحث عن شركاء تجاريين أكثر موثوقية. 

من التبعية إلى الشراكة المتكافئة

في مواجهة هذا الانكفاء، تسير الدول الأفريقية في طريق إعادة تعريف علاقاتها الدولية. إذ لم يعد الهدف هو الالتحاق بقطب ضد آخر، بل بناء شبكة من الشراكات تقوم على المنفعة المشتركة، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

في هذا السياق، توسّعت العلاقات مع دول صاعدة، نظراً لأن هذه الدول قدّمت نماذج بديلة في التعاون، مثل: مشاريع بنية تحتية دون شروط سياسية مسبقة، وتمويلات تنموية مرنة، واحترام للخيارات السيادية. لكن المهم هنا: أن الدول الأفريقية باتت شريكاً وليست تابعاً، وتُقيّم العروض حسب مصالحها الوطنية، لا حسب ضغوط خارجية.

هذا التحوّل ليس رد فعل على تراجع أمريكا فقط، رغم تداعيات هذا التراجع على مستوى العالم كلّه، بل هو أيضاً امتداد لمسار طويل من النضال من أجل الاستقلال الحقيقي. فبعد عقود من الاستعمار، ثم عقود من التبعية الاقتصادية، تسعى أفريقيا اليوم إلى بناء اقتصاداتها على أسس محلية، وتحويل مواردها الطبيعية إلى فرص للتنمية.

السيادة كمبدأ: إعادة ترتيب الأولويات

ما يحدث اليوم في أفريقيا لا يمكن فهمه دون ربطه بمبدأ أساسي: السيادة الوطنية. فالقرار بعدم عقد القمة، وفرض الرسوم الجمركية، يُذكّر بالفترة التي كانت تُعامَل فيها القارة كمجرد مزود للموارد، وسوق لمنتجات الدول الصناعية، دون اعتبار للاستراتيجيات التنموية المحلية.

لكن الزمن تغير. اليوم، ترفض دول مثل: السنغال، وكينيا، وجنوب أفريقيا، وبوتسوانا وغيرهم الكثير، أن تُفرض عليها أجندة خارجية. بل تُصرّ على أن تكون الشريك المُفاوض، لا الطرف المتلقّي. وهذا ما يفسر تنامي الدعوات داخل الاتحاد الأفريقي لإصلاح النظام التجاري العالمي، وتعزيز التكامل الإقليمي، وبناء سلاسل إنتاج محلية.

القرارات الأمريكية الأخيرة ليست مجرد تغيير في السياسة التجارية أو الدبلوماسية، بل هي تعبير عن أزمة في نموذج العلاقة بين «الشمال» و«الجنوب». نموذج كان يقوم على هيمنة اقتصادية، وتبعية سياسية، وتهميش للخيارات السيادية. أفريقيا اليوم، ترفض أن تكون جزءاً من هذا النموذج. وهي لا تبحث عن «بديلٍ «للغرب، بل عن نظام علاقات دولية جديد، تقوم فيه الدول الصغيرة والناشئة على قدم المساواة مع الكبار، ويبدو في هذا السياق أن الولايات المتحدة وعندما تقوم بتقييم استراتيجيتها في أفريقيا تدرك أنّها خسرت الكثير، ولن يكون بإمكانها العمل ضمن الوصفة السابقة، وقد لا تكون قادرة على تقديم نموذج جديد، وتحديداً مع وجود نماذج أخرى منافسة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1238
آخر تعديل على الإثنين, 11 آب/أغسطس 2025 09:01