بلدان الإقليم الأساسية وإفشال مشروع الفوضى

بلدان الإقليم الأساسية وإفشال مشروع الفوضى

لا يبدو خفياً أن منطقة الشرق تشهد محاولات أمريكية حثيثة لنشر الفوضى، وتحديداً عبر وكيلها «الإسرائيلي»، فسلوك الكيان بات أشبه بكلب مسعور ينتقل من جبهة إلى جبهة ما يمثل تهديداً لكل دول الإقليم دون استثناء، وفي ظل هذه الهجمة المتواصلة يقع البعض تحت تأثير ما يضخ في الإعلام، أو تحت تأثير الدماء التي لم تتوقف يوماً واحداً منذ أكثر من عقد!

الصورة قد تبدو سوداء قاتمة، لكننا نحتاج إلى تقييم حقيقي للواقع الاستراتيجي الحالي، وتدقيق حجم «إنجازات» المشروع الأمريكي-الصهيوني، فعلى صفحات «قاسيون» كنا أشرنا مراراً إلى أن ما يجري على الساحة العالمية هو صراع بين برنامجين أساسيين، تحمل واشنطن وأتباعها راية أحدهما، بينما ترفع دول الجنوب راية الآخر، هذه الدول التي تسعى اليوم إلى حصد نتائج سياسية تتناسب مع حجم إسهامها في الإنتاج العالمي الذي تجاوز اليوم حصة الغرب بشكلٍ ملحوظ، وذكرنا أيضاً أن المعركة الحالية هي معركة تقاس بالنقاط، بدلاً من ضربةٍ قاضية يوجهّها طرف إلى آخر، لكن الحديث عن النقاط لا يعني أبداً أن أي نقطة يحرزها فريق لها وزن استراتيجي واحد، فهذا مخالف لأبسط القواعد الاستراتيجية، وهو ما ينبغي توضحه.

جزءٌ من المشهد القاتم!

شهدت وتشهد الساحات في فلسطين ولبنان وسورية وزناً أمريكياً صهيونياً واضحاً لا يمكن إخفاؤه، واستطاع فريق الفوضى هذا تحقيق نقاط على هذه الجبهات، ففي فلسطين المحتلة يستمر عدوان الاحتلال مدعوماً من الولايات المتحدة، ويطبق الكيان حصاراً غير مسبوق على قطاع غزّة، التي بدأت آثار المجاعة تظهر وتصوّر على الشاشات، ويبدو أن القوى الأخرى لم تستطع حتى اللحظة وقف هذه الحملة الشريرة، في لبنان أيضاً حققت الضربات ندبات واضحة على جسد المقاومة اللبنانية، واستطاع الكيان كسر شعار «وحدة الساحات» موقتاً عبر إنهاء جبهة إسناد غزّة التي بدأها حزب الله، وفي سورية أنهت «إسرائيل» بعد هروب بشار الأسد البنية التحتية العسكرية للجيش السوري ودمرت كل ترسانة الأسلحة التي راكمها الشعب السوري خلال عقود طويلة، واختارت «إسرائيل» لحظة محددة لتوجيه هذه الضربة، وهي تلك التي بات بالإمكان أن يستعيد الشعب السوري سلطته على مقدراته بعد سقوط النظام البائد، وبعد ذلك بات يتمتع الطيران المعادي بحرية العمل في المجال الجوي السوري، كما توغّلت قوات الاحتلال في مزيدٍ من الأراضي السورية حتى باتت تبعد عن العاصمة دمشق 10كم فقط... بعد أن أنهت من جانبٍ واحد اتفاقيات فض الاشتباك لعام 1974.

فريق الفوضى

يمكننا النظر إلى ما سبق بوصفها نقاط أحرزها فريق الفوضى، لكنها ورغم الحرائق التي أنتجتها ليست كافية بعد لتغييرٍ شاملٍ في التوازن الإقليمي، بل هي محاولة «طموحة» لذلك، ويدرك اللاعبون ذلك، ولتوضيح ما نقصده يجب أن نذكر أن المنطقة المستهدفة، تقف على بلدانٍ أساسية تمثلها قوى إقليمية، هي: تركيا وإيران والسعودية ومصر، ولتنجح الولايات المتحدة بكسر التوزان في منطقة كهذه ستكون مجبرة على إسقاط واحدة على الأقل من هذه البلدان، وإذا ما نظرنا للأحداث من هذا المنظور بالتحديد، نرى أن هذه البلدان تحت النار بأشكالٍ مختلفة، لكنها صامدة وقادرة على الرد وتوجيه ضربات في المقابل، بل والأكثر من ذلك أن القوى الإقليمية الأساسية تدرك أن سقوط واحدة منها يمهد الطريق جدياً لسقوط الجميع، وهو ما أنتج استراتيجية تصفير المشاكل البينية منذ سنوات لتنظيف قنوات التواصل، ورفع درجات التنسيق والتعاون فيما بينهم، بل يبدو أن ما يجري تحت الطاولة أكثر من مجرد تنسيق في المواقف، بل يتعدى ذلك إلى دعم حقيقي وملموس.

ماذا بعد محاولة إسقاط إيران؟

محاولات استهداف بلدان الإقليم مستمرة، ولن يكون آخرها ما جرى في إيران، فاستهدافها بهذا الشكل المباغت وأثناء المفاوضات مع واشنطن، كان محاولة حقيقية لكسر التوازن، لكنها باءت بالفشل الذريع، فالرهان الحقيقي كان ينصب على إسقاط إيران ونظام الحكم فيها، والعمل على تفتيتها وإنهاء وحدتها السياسية، وهو ما لم يحصل، بل أظهر الشعب الإيراني أنّه قادر على تجاوز الخلافات السياسية، وإنشاء جبهة داخلية موحدة في مواجهة العدوان، وأثبت التيار الأساسي من المعارضة في إيران قدرته على التمييز بين خلافاته المشروعة مع النظام الإيراني، واستهداف إيران وإنهاء وجودها، وهو ما يعتبر واحداً من العوامل الأساسية التي أدت إلى فشل المحاولة الأمريكية-الصهيونية، فلم تكن هناك أوهام بأخذ إيران بالأدوات العسكرية وحدها، بل كانوا يعولون على أخذها من الداخل.

إن صمود إيران في الجولة الأخيرة لم يكن ثمرة إيرانية خالصة، بل هو في الحقيقة تعبير مباشر عن توازن القوى على الساحة الدولية، فتطوير قدرات إيران العسكرية، وتحديداً صواريخها الفرط صوتية يشير إلى دور روسي/صيني ساعد طهران بالاستعداد لهذه المعركة، وتتحول هذه الصواريخ تدريجياً إلى بصمة واضحة للقوى الصاعدة، ودليل على مستوى مرتفع من التطور التكنولوجي العسكري، الذي أثبت نفسه في ساحة القتال، حتى مع استخدام الدفاعات الأمريكية المتقدمة. فوجود سلاح قادر على شل دفاعات الخصم سيتحول تدريجياً إلى سمة أساسية في المعركة.

صواريخ فرط صوتية في تركيا وتسليح مصر

محاولات استهداف إيران مستمرة، لكن فوزها في المعركة الأخيرة سيؤخر شن حملة جديدة بهذا الحجم خلال الآجال القصيرة، وهو ما سيزيد من احتمالات توجيه ضربات إلى مراكز أخرى وتحديداً تركيا ومصر، ويجري التحضير لذلك بشكل واضح، فإبقاء المشهد في سورية ولبنان وفلسطين مشتعلاً يزيد من الانكشاف التركي المصري، ويؤجج حدّة التناقضات الداخلية، ويظهر بشكلٍ واضح أنهم في أنقرة والقاهرة يستعدون بالفعل لأشكال مختلفة من المواجهات، بما فيها العسكرية المباشرة، فكشفت تركيا خلال شهر تموز الجاري عن صاروخ فرط صوتي باسم «تايفون بلوك 4» بمدى يصل إلى 1000 كم وأسرع من 8 ماخ، مع قدرات كبيرة على المناورة قبل إصابة الهدف، وهو ما يحمل دلالات واضحة، وتحديداً في ظل اللحظة الحالية كون امتلاك الجيش التركي لقدرات صاروخية مع وجود أنظمة دفاع جوي متقدمة وسلاح جو متطور، يجعل تركيا محصنة أكثر بالمعنى العسكري، وإن إعلان أنقرة امتلاكها هذا الصاروخ هو فرض توازن مع «إسرائيل».

في القاهرة أيضاً، ظهرت عدّة تقارير حديثة عن رغبة مصر في شراء معدات عسكرية متطورة من الصين، وتحديداً طائرات مسيرة وطائرات مقاتلة، وجاء هذا بعد أن اختبرت مصر هذه الأسلحة أثناء مناورات نسور الحضارة التي اشترك فيها الجيشان المصري والصيني في 2025.

المرحلة التي نعيشها الآن شديدة الحساسية وحاسمة في شكل تطور الإقليم، وتحمل تأثيراً كبيراً على الصراع العالمي ككل، من هنا لا يمكن الاعتماد على زاوية محددة دون غيرها، وينبغي التأكيد، أن الضربات الشديد والكثيفة التي ندفع ثمنها الكثير من الدماء والخراب، ما هي إلا ضريبة يبدو أنّه من الواجب دفعها للانتقال إلى عالمٍ جديد، فرغم أن الاحتمالات مفتوحة، ولا يمكن الجزم بأننا لن نشهد انكسارات جديدة، لكن القدرات التي تملكها المنطقة، وإذا ما جرى توظيفها في المعركة مع بناء شبكة تحالفات صحيحة، سيكون ضامناً لتجاوز المرحلة وتحطيم مشاريع التفتيت.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1236