عن أحلام نتنياهو وترامب المتناقضة.. وصلابة المقاومة
جُنّ جنون الصهيوني كما كان متوقعاً كأحد الخيارات الضيقة والمحدودة له، باستئناف الحرب على قطاع غزة، مستهدفاً إياه وقاطنيه عشوائياً وبشكل همجيّ، ساعياً بذلك إلى نسف الاتفاق الذي جرى مع المقاومة الفلسطينية قبل أن يدخل مرحلته الثانية.. لكن في المقابل، بدأ بركانّ داخليّ يُظهر بعضاً من حِممه.
كان المضيّ نحو تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق مع المقاومة الفلسطينية، بمثابة نهاية وانهيار الائتلاف اليمينيّ الذي يقوده رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، وفتح أبواب الجحيم بوجهه قضائياً بتهم تلقي أموال أجنبية وخيانة الثقة، وعدم تمرير الموازنة العامة للحكومة نهاية الشهر الجاري.
وعليه، انطلاقاً من مصلحته الحكومية الخاصة من جهة، والمصلحة الصهيونية العامة بـ «الحرب الوجودية» من جهة أخرى، استأنفت حكومة نتنياهو الحرب، وذلك مع عودة وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير للحكومة «الإسرائيلية» مع تياره وداعميه في البرلمان، مما يقوي ائتلاف نتنياهو حالياً ويضمن تمرير الموازنة العامة.
وبالتوازي مع ذلك، يعمل نتنياهو ما بوسعه لمواجهة وإقصاء خصومه السياسيين في الداخل «الإسرائيلي» للأسباب نفسها، وإذا ما كانت حالة الانقسام في الوسط السياسي «الإسرائيلي» ضبابيّة سابقاً، فإنها بدأت الآن بالتكشّف والفرز السريع، وباتت تصدر أسماء وشخصيات واضحة يحاربها نتنياهو وائتلافه، من بينها رئيس الشاباك الحالي رونين بار، والمستشارة القضائية للحكومة، وما سُمي بالـ «دولة العميقة» والتي تعني العديد من الشخصيات المعارضة في أجهزة الاستخبارات والأمن والمؤسسة العسكرية والسلطة القضائية وغيرها، بما بات يوصف سلوك نتنياهو بأنه حملة «تطهير».
وفي هذا الإطار جرت يوم الخميس جلسة تصويت حكومية انتهت بالموافقة لإقالة رئيس الشاباك. إلا أن المحكمة العليا قضت بتحميد القرار إلى حين الالتماس ضده، وقالت المستشارة القضائية لحكومة نتنياهو: «يُحظر القيام بأي عمل من شأنه أن يمسّ بمكانة رئيس الشاباك رونين بار. ويُحظر تعيين رئيس جديد للشاباك، ولا يُسمح حتى بإجراء مقابلات لشغل المنصب.»، رغم ذلك، ستمضي الحكومة لعقد جلسة للتصويت على إقالة المستشارة القضائية [وهو ما لم يجرِ بعد حتى لحظة كتابة هذا المقال].
الصراع الداخلي
بالنسبة للداخل «الإسرائيلي»، فإن هذه الإجراءات الحكومية تهدد وتقوّض «النظام الديمقراطي»، والحرب نفسها تْضعف الداخل اقتصادياً، فضلاً عن الاستحقاقات والضغوط بالنسبة لاستعادة الأسرى «الإسرائيليين» الأحياء منهم والأموات، الذين لا يزالون لدى المقاومة الفلسطينية.
ومن ذلك، تجري المواجهات الداخلية وفق مجموعة العناوين التالية من حيث الشكل: تهديد النظام الديمقراطي عبر تجاوز الحكومة لصلاحياتها وتطاولها على السلطة القضائية– فشل أهداف الحرب– التفريط بحياة الأسرى عبر إفشال الاتفاق والعودة للحرب– التحقيق بأحداث 7 أكتوبر– التحقيق بملف «قطر غيت» الذي يفيد بتلقي الحكومة أموالاً طائلة من جهات أجنبية– التهم القضائية الموجهة لرئيس الوزراء.
وتشير عناوين المواجهات كلها إلى حجم المأزق والانقسام داخل بنية الكيان، الذي يعيش خطراً وجودياً حقيقياً، ما يزيد من حدّة الصراع الداخلي ويفتح تصاعد المواجهات بين الفرقاء. حتى وصلت حدّة الصراع لدرجة ظهور تنبؤات، من الداخل «الإسرائيلي» نفسه، باحتمالات نشوب حرب أهلية، وتشهد الشوارع احتجاجات واسعة بعشرات الآلاف حالياً، ومواجهات عنيفة مع قوات الشرطة، لكن وإن كان هذا التوصيف مبالغة في الظرف الراهن، إلا أنه قد يصبح واقعاً في حال استمرت هذه التناقضات الداخلية بالتفاعل بهذا الشكل.
الموقف الأمريكي
وسط هذه الفوضى الداخلية وما يصدر عنها، يجري التشويش على الموقف الأمريكي واصطفافه وأهدافه ومصالحه، ففي حين أن واشنطن كانت من فرضت على نتنياهو قبول الاتفاق أساساً، إلا أنها أيضاً من دعمت موجة التصعيد الحربية الجارية.
ويمكن القول، بشكل مبسّط: إن واشنطن تحاول اللعب على حبال التناقضات جميعها، ووفق الحدود والهوامش التي لا تزال متاحة أمامها، فالحقيقة أنها وبقدر ما تسعى لمساعدة حليفها الصهيونيّ، إلا أنّها تدرك الفاتورة السياسية الكبيرة التي يتوجّب دفعها، وعليه فإن مسار واشنطن-ترامب لا يزال هو القديم الجديد نفسه، بمحاولة إطالة أمد عمر الكيان قدر الإمكان، عبر تقديم ما يمكن تقديمه له. (الضغط على اليمن يأتي بهذا الإطار كذلك).
ومن ذلك، وبعد الرفض العربي الحاسم لخطة التهجير، فإن واشنطن تحاول المناورة بالضغط على قطاع غزة ومن يسانده لفرض هدف أعلى، لكنه أقلّ من سابقه «التهجير»، متمثلاً بإنهاء وجود المقاومة الفلسطينية فيه تماماً، وليس فقط عدم إدارتها له وفق الخطة المصرية العربية– خدمةً لـ«إسرائيل»- أو على الأقل تكبيد المقاومة خسائر سياسيّة عبر الإفراج عن الأسرى مجاناً، ويبدو أن المقاومة الفلسطينية تقف موقفاً صلباً وحازماً بعدم التنازل عن أي مطلب.
من هذا الهامش الذي فتحته واشنطن، انطلق نتنياهو ما بوسعه في حربه مجدداً ومستهدفاً ومستفزاً غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان وحتى سورية، مستفيداً من ذلك داخلياً، ومتأملاً استدراج أيّ من هذه الدول لفخّ تصعيد يفضي لحرب واسعة، تورط وتفرض على واشنطن التدخل والانخراط عسكرياً لصالحه، إلا أنّ الأخيرة بدأت تُغيّر لهجتها مجدداً، تجنباً لمثل هكذا سيناريو، على العكس من طموحات وأحلام نتنياهو.. ومن الممكن أن تعود خلال الأيام المقبلة للضغط عليه لوقف إطلاق النار ومتابعة تنفيذ الاتفاق، دون تحقيق أيّ شيء يذكر من التصعيد الأخير، سوى رفع درجة الاحتقان دولياً أكثر، من الكيان الصيوني وسلوكه، وما سيرتد عليه داخلياً في النهاية.. أو أنه سيترك لمواجهة مصيره لوحده.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1219