الاستيطان وسياسة الهروب إلى الأمام!

الاستيطان وسياسة الهروب إلى الأمام!

يظهر الكيان الصهيوني تصاعداً شديداً في العدوانية على المستويات كافة، العسكرية والسياسية، فالمواقف «المعتدلة» تكاد لا تختلف من حيث جوهرها عن مواقف القوى الأشد تطرفاً، ما يثبت إمكانية أن تتحول عزلة الكيان التي يعيشها الآن إلى ظرف دائم، وهو ما ستكون له آثار هائلة على مستقبله، تحديداً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن العلاقات المتينة مع دول كبرى كانت دائماً صمام الأمان الذي يضمن بقاء الكيان العنصري!

ربما كانت تصريحات الوزير الصهيوني بتسلئيل سموترتش الموضوع الأبرز خلال الأيام الماضية، تلك التي تحدث فيها عن ضم الضفة الغربية، وضرورة الاستيطان في غزّة، لكن المثير للاهتمام أن سموترتش لا يعبر عن نفسه، ولا يمكن القول بأي شكلٍ من الأشكال أن الوزير الصهيوني المتطرف هو المشكلة، بل المسألة أكثر تعقيداً من ذلك.
إن سياسة الكيان مهما تنوّعت ظلت تحافظ على ميلٍ عامٍ لقضم الأراضي الفلسطينية، بما فيها تلك التي تضمنها القرارات الدولية، وتقرها دول العالم نظرياً، فسياسات الاستيطان شهدت تباطؤاً في بعض المراحل، لكنّها لم تتوقف، ولا يمكن القول: إن سموترتش قال شيئاً جديداً، لكن اللحظة التي اختارها لإعادة التأكيد على نواياه ومن يمثلهم هي ما تهمنا.

عن أي تصريحات نتحدث؟

يشغل سموترتش منصباً حساساً إلى جانب كونه وزيراً للمالية، فهو وزير في وزارة الدفاع، يتولى فيها المسؤولية عن الاستيطان في الضفة الغربية، وقال في تصريحاته الأخيرة: إن «سنة 2025 سنة السيادة [الإسرائيلية] على يهودا والسامرة» وهي التسمية الصهيونية للضفة، وأضاف لوكالة رويترز: إنه «أصدر تعليمات للتحضير لبسط السيادة [الإسرائيلية] على الضفة الغربية»، معتبراً أن الوقت قد يكون مناسباً بعد فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، على أساس أن هذا الأخير سيكون داعماً لتحركٍ من هذا النوع، بحسب تقديرات سموترتش.
وبالتزامن مع هذه التصريحات الخطيرة، خرجت وزيرة الاستيطان أوريت ستروك لتعلن مواقف متطابقة، داعيةً لاستمرار احتلال القطاع، وضم الضفة الغربية، مؤكدةً أن مكتبها الوزاري يعمل على قدمٍ وساق لإعلان السيادة على أكبر مساحة ممكنة في الضفة الغربية، وتطرقت ستروك إلى مصير الفلسطينيين على ضوء خطة كهذه، لتقول: إن «الحق القومي في الأراضي سيكون ملكا [لإسرائيل] فقط» وذهبت الوزيرة الصهيونية إلى أبعد من ذلك، فصرّحت أن الفلسطينيين «يمكنهم كبشر بالطبع البقاء على الأرض» في إشارة وقحة إلى طبيعة «الحقوق» التي يمكن أن يحصل عليها الفلسطينيون، وأكدت أن الحديث يدور عن «الحقوق الفردية الكاملة، وليست الحقوق القومية، الحقوق القومية، في هذه الأرض يتمتع بها الشعب اليهودي فقط».

الحرب لن تضمن ذلك

يُعتبر ما سبق بعضاً من أمثلة كثيرة على مواقف الصهاينة من القانون الدولي، بينما يقر «المعتدلون» بضرورة قيام دولة فلسطينية، لكنهم يتحدثون عن دولة مشوّهة لا تتماشى مع القرارات الدولية، التي تضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية. وإذا ما أردنا فهم اللحظة التي اختارها هؤلاء لتأكيد مواقفهم السابقة بهذا الشكل، ينبغي علينا أن نسأل أولاً: هل يستطيع الكيان فرض هذا الواقع باستخدام القوة العسكرية؟ والجواب الواضح، أن فرص نجاح طرح كهذا تكاد تكون مستحيلة، والحرب التي يخوضها جيش الاحتلال في القطاع منذ أكثر من عام تؤكد هذا الاستنتاج، فإن كانت «إسرائيل» قادرة على اتخاذ قرار سياسي بذلك، إلا أن الواقع الحالي في الأراضي المحتلة كفيل بتحطيم هذه الأوهام، بل إن إمكانيات جيش الاحتلال الهائلة لا تستطيع اليوم أن تضمن استقرار الأراضي الواقعة خلف الخط الأخضر، ولم يستطع الكيان أن يعيش يوماً هانئاً منذ دخلت قواته إلى القطاع، والأمر مشابه في الضفة التي وإن كانت قدرات المقاومة العسكرية فيها أقل من مثيلتها في غزّة، إلا أنّها قادرة على توجيه الضربات وتصعيد نشاطها مع أي خطوة استيطان جديدة.
هذا ما يقودنا إلى استنتاج آخر، والذي يفيد بأن إطلاق هذه التصريحات، وتزامنها مع انعقاد القمة الإسلامية التي تشهد نسب توافق كبيرة بين دولها، تعكس مستويات غير مسبوقة من القلق داخل الكيان، الذي يستشعر أن الظرف الداخلي والدولي ينضج أكثر فأكثر أمام قيام الدولة الفلسطينية، وإن كانت الوسائل العسكرية قادرة على إعاقة هذا التوجه، إلا أنّها غير قادرة على إيقافه، فمن هنا يرى الكيان أن تمسكه بهذه المواقف بالتحديد، وإظهار عزمه على مواجهة أي حل للقضية الفلسطينية، من شأنه أيضاً أن يخلق حالة مطلوبة لدى الطرف الفلسطيني المقابل، وهي تحديداً الوقوف ضد القرارات الدولية ذات الصلة، ويضع الطرف الفلسطيني في موقع الرفض للقانون الدولي، ويخلق حالة ترفض فيها الأطراف المعنية الحل المتوافق عليه دولياً، بل وتؤرض أيضاً أي إمكانية لنشوء جبهة موحدة من الدول العربية والإسلامية، تؤدي واجبها في حل القضية الفلسطينية.
إن الرفض المعلن للكيان الصهيوني للقرارات الدولية هو فرصة لتثبيت عزلته أكثر، وتسمح بخلق مناخ لتوحيد الفصائل الفلسطينية على الخطوة المرحلية القادمة، فقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، من شأنه أن يخلق واقعاً جديداً تتغير فيه مفردات المرحلة السابقة كلها، لا بل إن مجرد أن ترى هذه الدولة النور، سيعني ذلك شل المشروع الصهيوني في المنطقة وحرمانه من شروط وجوده الأساسية.

ماذا تعني عزلة الكيان؟

السلوك الصهيوني الذي عرضناه هو جزء من خطة مدروسة، لكنّها تؤدي إلى نتائج هائلة على مستقبل الكيان، فالخروج بهذا الشكل المعلن عن الشرعية الدولية، سيجعل عزلة الكيان أكبر ويُصعّب موقف داعميه الأساسيين، الذين سيجدون أنفسهم أمام خيارين، فإما العزلة مع الكيان أو رفض مواقفه على العلن، إن ظرفاً كهذا يدفعنا للقول: إنه قادر على نسف الأسس التي قام عليها الكيان الصهيوني، فكان بن غوريون قد قال سابقاً في أحد خطابته عام 1947: «لا يمكننا أن نعتمد على أنفسنا فقط؛ نحن بحاجة إلى دعم القوى العالمية الكبرى. بدون هذا الدعم، لا يمكننا تحقيق الحلم الصهيوني» وهو الاستنتاج الذي ثبته هرتزل في كتابه «الدولة اليهودية» عندما قال: «دعم القوى الكبرى هو المفتاح لتحويل فكرة الوطن القومي اليهودي إلى واقع».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1201