مشاهد من الحكاية الأمريكية الطويلة... أيّ مستقبل ينتظر أمريكا؟
أيّام معدودة تفصل العالم عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ومع اقترابها يشتدّ الصراع وتحتدم المنافسة، في مشهدٍ يجعل المتابع يقف مع نفسه ويسأل: أي مستقبل ينتظر أمريكا مع هذا الذي يحدث؟ وماذا عن الداخل الأمريكي والشارع في قادمات الأيّام؟
بشيء من التفصيل والإحاطة، سنعرض بعض الأحداث التي تصدّرت الساحة الأمريكية، والتي تعدّ فقرات ومشاهد من الحكاية الأمريكية الطويلة، وصولاً لتوضيح ما تعنيه هذه الأحداث، وضمن أي سياق يمكن وضعها، ربطاً بالمشهد العامّ للصراع.
«قمامة بايدن»
الفقرة الأولى في حكايتنا، تحمل عنوان «قُمَامَة بايدن»، فأثناء مناقشةٍ له، وَصفَ الرئيس الحالي للولايات المتحدة جو بايدن أنصار ترامب بـ«القمامة» زاعماً انتقاده لخطاب الكراهية الصادر في تجمعٍ لمؤيدي ترامب. التصريح أحدث صدمةً بين الجمهوريّين، إذ اعتبروه هجوماً مسيئاً إلى جزء كبير من الأمريكيين الذين يدعمون ترامب.
وفي ردّه على ذلك، ظهر ترامب بطريقة مسرحيّة، مرتدياً زيّ عامل جمع القمامة خلال تجمُّعٍ انتخابيّ في «جرين باي»، وصرَّح أنه «قد لا يرتدي سترةً زرقاء مرة أخرى»، في محاولة للمزج ما بين السخرية ومحاولة إثارة الحماسة بين أنصاره.
من جانبها، حاولت المنافِسة الرئاسية لترامب، كامالا هاريس، النأي بنفسها عن تصريحات بايدن، وراح حديثها يتركّز على أنّها ستكون رئيسة لكل الأمريكيين.
بايدن – ماسك
في الفقرة الثانية من الحكاية، نضيء على الانتقاد المتبادل ما بين إيلون ماسك وبايدن، فقد انتقد الأول الثاني في الفترة الأخيرة، واتهم الإدارة الأمريكية الحالية بتعمّدِ تسهيل دخول أعداد كبيرة من المهاجرين غير الموثَّقين إلى الولايات المتحدة، زاعماً أن ذلك يهدف إلى تغيير التوازن السياسي لصالح الحزب الديمقراطي.
وفي منشور له على منصة X، قال ماسك إنّ بايدن يسعى لإضفاء الشرعية على المهاجرين لتأمين أغلبية دائمة وتحويل النظام السياسي إلى نظامٍ ذي حزب واحد، كما شبّه التشريعات الجديدة بالأساليب السياسية المخادِعة من حقبة الثورة الفرنسية وفق تعبيره.
بالمقابل، فإن بايدن كثّف الانتقاد لإيلون ماسك، بالاستناد إلى أنّ الأخير عمل في أمريكا دون تصريح عمل، ولا يحق له الحديث عن المهاجرين.
ساندرز يقفز من جديد
الفقرة الثالثة من الحكاية، وهي الفقرة الأكثر إثارة في الحقيقة، تتعلّق بدعوة السيناتور بيرني ساندرز الناخبين الذين يريدون وقف الحروب لدعم «هاريس»، وهي دعوة أثارت جدلاً كبيراً لكونها مكررة، وسنقف عندها بعد قليل، لكن ليبقَ في البال، أنّ «ساندرز» هذا يقدّم نفسه بوصفه داعياً للسلام وبالضدّ من الحروب الأمريكية!
«واشنطن بوست» وهاريس
أمّا في الفقرة الرابعة والأخيرة، فنحيطكم علماً بأنّ صحيفة «واشنطن بوست» كانت تخطّط لنشر تحقيق مؤيّد لـ«هاريس»، لكنّها فجأةً غيّرت موقفها دون توضيح الأسباب، لكن هناك تكهنات بأنها كانت تخشى من أن يُنظَر إلى المقال على أنه غير موضوعي أو منحاز، خاصة في مناخ سياسي متوتر وحسّاس. ما أدى لتنظيم حملة لإلغاء الاشتراكات احتجاجاً، التي بلغت إلغاء نحو 200 ألف اشتراك!
ما الهدف وماذا يحدث فعلياً؟
أن يخرج بايدن ويقول بأنّ مناصري ترامب «قمامة»، فهذا سلوكٌ مقصود، وهدفه بصورة مباشرة شدّ عصب الشارع الأمريكي، واستدعاء خطاب متشدّد من الطرف المقابل، فهذا النمط الأمريكي مدروسٌ ومكرَّر، وأصبح معروفاً ضمن السياسة الأمريكية في التحكُّم بسلوك الناخبين، وخصوصاً أنّ الرئيس الحالي خرج مرّة أخرى ليصرّح بأن مناصري ترامب «هم نوعٌ من الرجال الذين ينبغي ضربهم على المؤخّرة» ما يثبّت أن الهدف من هذه التصريحات مدروس.
وبخصوص ساندرز، وتصريحه «الفذّ» بأنَّ من لا يريد الحرب عليه أنْ يصوّتَ لـ«هاريس»، فهو لحنٌ منسجمٌ يُعزَف على الأوتار ذاتها التي يَعزِف عليها بايدن، لكن هنا يجب توضيحُ مسألتين مهمَّتين؛ الأولى، والتي أشرنا لها سابقاً، هي أنّها ليست المرة الأولى التي يقوم بها ساندرز بذلك، فقد فعل الأمر نفسه مع كلينتون في العام 2016، وهذا إنْ دلّ على شيء، فهو دلالة على أن «ساندرز» هذا، هو بصورة واضحة وجليّة مع تيار محدَّد في أمريكا، وضدَّ آخر، وعملُه فعلياً هو تأريض التيّار؛ وينصبُّ بشكلٍ أساسي على تأريض الشارع الرافض للحرب، فبعد سلسلة من المواقف المتضامنة مع الفلسطينيين يذهب ساندرز الآن ويدفع جمهورَه لدعم تيار الحرب الحالي رغم كلّ البروباغندا التي يصنعها حول نفسه، والتي يروِّج لها الإعلام بصورة مكثَّفة، على أنه داعية سلام.
المسألة الثانية التي يجب أن تبقى حاضرةً في البال، هي أنّ «هاريس» التي يدعو «ساندرز» لانتخابها من أجل السلام وضدّ الحرب، هي جزءٌ أساسيّ من الإدارة الأمريكية الحالية، وبذلك فهي في واقع الأمر تتحمّل مسؤوليةً فيما يخص الأوضاع المتوترة والحروب الدائرة، إنْ كان في فلسطين، أو أوكرانيا، أو غيرها، وبالتالي، فهي لا تملك أفضليّة على «ترامب» في هذا الجانب، بل هي عمليّاً ضمن صفّ أصحاب قرار الحرب الأمريكي.
وإذا بدا لكم أنّ العمل الجاري هو باتجاه واحد، أي ضّد «ترامب»، فإنّ الفقرة المتعلقة بتحقيق واشنطن بوست الداعم لـ«هاريس»، تُغلِقُ دائرةَ الحقيقة، لأن «ترامب»، وما يمثله من تيارٍ له أنصارُه وداعموه، لا يقفُ عاجزاً، بل يعمل بالاتجاه المعاكس، أيْ لا يوفّر فرصة تمكنّه من شيطنة المنافس وكسب المعركة الانتخابية. وكنّا عشنا سويّة فصولاً في هذا الشأن، تحديداً فيما يخص محاولات الاغتيال التي فشلت مرتين...
ما الحكاية الأمريكية؟
الحكاية الأمريكية التي نقف مع فقراتٍ منها هنا، هي حكايةٌ تراجيدية، تعيشها إمبراطوريةٌ آفلة ومأزومة حتى الصَّميم، بل وباتت أزماتُها المستعصية الآن أشدّ من أيّ وقت مضى، لذا فهي تلاقي تعبيراتها في الداخل الأمريكي؛ فإذا كان مأزق بايدن وتياره حاضراً على وقع التراجع والانكفاء الأمريكي على المسرح الدولي، فإنّ هذا المأزق يزداد الآن، ويُضيِّقُ الخناق على هذا التيار إلى ذلك الحدّ الذي أصبح فيه ضرورياً -من وجهة نظره- أنْ تُرفَعَ مستوياتُ التصعيد والتحريض إلى أقصى حدّ ممكن في محاولة لقلب الموازين ضدّ التيار الآخر.
والتيار الآخر بدوره، أي تيار «ترامب» أيضاً، هو تيار مأزوم، وبذهنه حلٌّ له طبيعةٌ أخرى لأزمةِ أمريكا الكبرى، ولهذا فهو أيضاً لا يوفّر جهداً لكسب موازين القوى.
لكن بالنتيجة، فإن هذا الشدّ الكبير باتجاهين متضادَّين، لكلٍّ من هذين التيارَين، يعمِّقُ الانقسام ضمن صفوف المجتمع الأمريكي، ويجعل من احتدام الصِّراع الحالي، رغم ما وصل إليه من درجات عالية، تمهيداً لصراعات كبرى قادمة أعظم وأشدّ وطأةً، خصوصاً أن فوز «ترامب» مرةً ثانية يعني من جملة ما يعنيه، وجود احتمالٍ للانقلاب على المؤسسة التقليدية الرسمية برأسَيها الجمهوري والديمقراطي في أمريكا، مرةً واحدة وإلى الأبد...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1199