عن أي مشروع تتحدث الولايات المتحدة؟
يبدو واضحاً مع كل ساعة تمر، أن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة في حالة سباق مع الزمن، فخياراتهم تتضاءل وتضيق، ورغم كل المناورات يبدو أنهم وحلفائهم على وشك إعلان خسارتهم في جولة مهمة قد تكون حاسمة في المجرى اللاحق للأحداث، ولذلك نشهد تزايداً ملحوظاً في حجم التحركات الأمريكية في الشرق الأوسط، ولا تتوقف تصريحات المسؤولين عن ذلك، فهل تنجح واشنطن حقاً في تجنّب تبعات كلّ ما يجري؟
برزت في الأيام القليلة الماضية مجموعة من التطورات التي ينبغي وضعها في موقعها الطبيعي ضمن المشهد الملتهب.
عن أي دولة يتحدثون؟
كرر المسؤولون الأمريكيون مجموعة من الأفكار، تشير إلى أن الإدارة الأمريكية تدرس «الاعتراف بالدولة الفلسطينية» ونقلت صحيفة واشنطن بوست، أن هناك «خطة مفصلة وشاملة لتحقيق سلام دائم بين [إسرائيل] والفلسطينيين» وأشارت الصحيفة إلى أن واشنطن تعمل على «وقف مؤقت لإطلاق النار يعقبه تبادل للأسرى» على أن ينجز هذا الاتفاق قبل شهر رمضان القادم، ويشير التقرير ذاته إلى أن وقف إطلاق النار المؤقت سيفتح مجالاً لعرض خطة بجدول زمني محدد، تصل في نهاية المطاف إلى «إقامة دولة فلسطينية» تسبقها خطوات تحضيرية، مثل «تشكيل حكومة فلسطينية مؤقتة».
التقرير المشار إليه يقول: إن هذه المقترحات «تُناقش مع دول عربية وممثلين عن الفلسطينيين»، وأكد أيضاً: إن «الفيل في غرفة التخطيط» هو «إسرائيل» في إشارة إلى أن الكيان يرفض أولاً أي حديث عن قيام الدولة الفلسطينية، بل يرى فيه «شرطاً مسبقاً في المفاوضات» هذا بالإضافة إلى أن الحديث المتواصل عن عملية في رفح يمكن أن «يهدد المشروع الأمريكي هذا».
مع رصد بعض التصريحات حول طبيعة الدولة التي تتحدث عنها الإدارة الأمريكية، تتكرر كثيراً مصطلحات من نمط «دولة منزوعة السلاح» أو «حكومة تكنوقراط» وبدت واضحة في حديث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يوم السبت 17 شباط الجاري على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، أنه يرى قيام «الدولة الفلسطينية ضرورياً لتحقيق أمن [إسرائيل]» وادعى أن «الدول العربية تريد الآن وبصدق دمج [إسرائيل] في المنطقة لتطبيع العلاقات... وتقديم التزامات وضمانات أمنية، حتى تشعر [إسرائيل] بمزيد من الأمان» ولم ينس بلينكن التذكير بالموقف الأمريكي القائل: إن «إيران هي التهديد الأول لأمن المنطقة» وإن إنجاز اتفاق من هذا النمط «سيعزل كلاً من إيران والفصائل التي تدعمها».
كيف نفهم كل ذلك؟
يظهر أن الولايات المتحدة تسعى بشكل فعلي لخلق هذا المسار السياسي، الذي يظهر بوضوح حجم تناقضه مع المصالح العميقة لدول المنطقة، فواشنطن تعلم أن الوقت ينفد بسرعة، وأن جيش الاحتلال فشل فشلاً ذريعاً برغم دعمها الهائل له، ورغم وجود ممثليها في مجالس الحرب وغرف قيادة العمليات، لكن ظل ذلك كله دون أي نتيجة ملموسة على الأرض، وكما علّمنا التاريخ، يمكن أن تكون هذه الهزيمة العسكرية تمهيداً لهزيمة سياسية قاسية، وهذا تحديداً ما تحاول واشنطن القفز فوقه.
الصورة الشاملة تقدم لنا مجموعة من الثوابت، أولها أن العتاد العسكري المتطور ومليارات الدولارات التي صرفت على صناعته كانت عاجزة أمام فصائل مسّلحة بتكنولوجيا بسيطة ورخيصة، لكنها شديدة الفاعلية في الميدان، وخصوصاً مع درجة تنظيم عالية في صفوف المقاتلين، ما يعني أن «التفوّق العسكري» بات على المحك، وهو ما سيتردد صداه سريعاً في المنطقة.
يمكننا القول أيضاً: إن أحد هذه الثوابت يكمن في أن الولايات المتحدة كانت تتمسك بالـ «الاحتكار الحصري» لكل ما يخص القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وهي تدرك الآن أنها على وشك خسارة هذا الموقع بالتحديد، فالحرب الأخيرة أعادت فتح القضية على المستوى العالمي، وبرهنت في الوقت نفسه أن ما أنجزته الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية لم يكن سوى «طبخة بحص» ليس إلا.
تدرك الولايات المتحدة جيداً، أن الحديث عن قيام الدولة الفلسطينية بات حديثاً واقعياً، وهو ما يفسر سعيها لتصدّر المشهد، لا بهدف الإسهام الفعلي بقيام الدولة الفلسطينية فعلاً، بل على العكس من ذلك تماماً، إذ تحاول الإدارة الأمريكية كسب الوقت عبر «إعلان نوايا» لا أكثر، وهو ما يفتح الباب لوضع «جدول زمني» مطاط وغير واضح المعالم، والأخطر من ذلك، أن ما يمكن رصده في تصريحات المسؤولين الأمريكيين، هو أن الولايات المتحدة ربما ترعى مشروعاً على أن يكون نسخة مجمّلة من السلطة الفلسطينية القائمة حالياً، التي لا تمثل تطلعات الفلسطينيين، وخصوصاً أنها كانت أداة بيد الاحتلال للدفاع عن مصالح الصهاينة لا عن مصالح الشعب الفلسطيني.
مساعٍ أخرى يجري تحضيرها
التحركات الأمريكية بدت أكثر نشاطاً من تحركات قوى عظمى أخرى، مثل روسيا والصين، اللّتَين كانت تحركاتهما «هادئة نسبياً»، لكن ذلك لم يبدو شكلاً من أشكال المراقبة السلبية، بل العكس، إذ إن التحركات تلك كانت تعمّق أزمة الولايات المتحدة والكيان ولا تحلّها، ومن هنا كان خصوم الولايات المتحدة ينتظرون اللحظة المناسبة لخطوتهم التالية، وربما تكون دعوة موسكو يوم الجمعة 16 شباط الجاري لعقد اجتماع جديد للفصائل الفلسطينية خطوة خطرة في هذا الاتجاه، فروسيا استضافت سابقاً لقاءات من هذا النوع، لكنها لم تحقق النتائج المرجوة، ومع ذلك ظّلت المهمة على طاولة الدبلوماسية الروسية، فموسكو تسعى إلى إعادة توحيد الصف الفلسطيني عبر الاعتراف بحماس والجهاد كمكون سياسي أساسي في الطرف الفلسطيني، وتحاول إنهاء كل الذرائع التي استندت إلى انقسام الصف الفلسطيني، وبالتالي إلى غياب طرف موحد يمثل الفلسطينيين فعلاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1162