دول تتحرك ولقاءات تعقد لمواجهة مشروع الفوضى الأمريكي

دول تتحرك ولقاءات تعقد لمواجهة مشروع الفوضى الأمريكي

محاولة الإحاطة بكل الارتدادات الحاصلة مهمة صعبة، وتحديداً في ظل توسعها الدائم، فعلى المستوى السياسي: تعقد لقاءات مباشرة وتجري اتصالات، بالإضافة إلى اجتماعات سياسية على مستويات الدول، إلى جانب نشاطٍ دائمٍ في الأمم المتحدة، وتصريحات مستمرة للدبلوماسيين المعنيين في المسألة هناك، وكل ذلك يجري بشكل متواصل وعلى مدار الساعة. يعكس كل ذلك بلا شك حجم الاهتمام بما يجري، لا بجانبه الإنساني فحسب، بل بالغرض السياسي الذي يسعى له رعاة العدوان. لا يُستبعد بالطبع أن يكون جزء ملحوظ من هذه اللقاءات يعقد لغرض التشويش على القضية الفلسطينية وإغراقها بدهاليز جديدة، وخصوصاً تلك التي يجريها الغرب. أو لغرض آخر لا ينفي الأول، وهو استثمار اللحظة بهدف إشعال فتائل جديدة في منطقة استراتيجية وحساسة، قال عنها وزير الخارجية الروسي في وقت سابق: إنها بالفعل فوق برميل بارود، وهو ما يشكّل أحد الدوافع الحقيقية لهذا النشاط والاهتمام السياسي.

أظهر العدوان المستمر على غزة، أن القنابل التي يسقطها جيش الاحتلال بدعمٍ من واشنطن فوق رؤوس المدنيين، تترك آثاراً سياسية في منطقة أوسع بكثير من 365 كم2، مساحة القطاع، أو حتى مساحة فلسطين التاريخية كلها، التي يقاوم شعبها العدوان الصهيوني حتى اللحظة، ويلحق خسائر جسيمة بقوات الاحتلال. وعلى هذا الأساس، ما الذي يمكن رصده حتى اللحظة في هذه الرقعة الواسعة المتأثرة منذ 7 أكتوبر الماضي؟

هل يمكن الجزم بأجندة واشنطن؟

كان مشروع الفوضى الأمريكي حاضراً دائماً، وإن اختلفت الدول المستهدفة فيه، فقد ظل الجوهر ثابتاً، وهو إحراق المنطقة بشكلٍ كامل، الأساليب اختلفت وتطورت منذ حرب العراق، لكن الهدف لم يتغير، فإن كانت الولايات المتحدة قد غزت العراق بقواتها، تبيّن لاحقاً أن قدراتها العسكرية لا تسمح لها بمغامرات أخرى من هذا النمط، ولذلك لجأت لسياسة أخرى، وهي التفجير الذاتي، عبر تأجيج التناقضات الداخلية في كل المنطقة والاستثمار في أزماتها وتعميقها بدلاً من حلّها إلى أن تنفجر، ولذلك يبدو الهدف الأمريكي واضحاً، لكنه يحتاج إلى تسليط الضوء عليه، لا بهدف عرضه فحسب، بل بهدف فهم جوهر الإجراءات المضادة التي تجري لإعاقة المشروع الأمريكي.
اليوم، وبعد مرور أكثر من شهرين على عملية طوفان الأقصى، أصبح واضحاً بما لا لبس فيه، أن واشنطن تدفع للضغط على الدول الأساسية في المنطقة، وتحديداً مصر والسعودية، هذا بالإضافة إلى المحاولة الدائمة لتعميق أي شرخ موجود في العلاقة بين الدول العربية وإيران. وكانت آخر هذه المحاولات، الإعلان الأمريكي عن إنشاء تحالف للتعامل مع ما وصفوه بـ التهديد القادم من اليمن على الملاحة في البحر الأحمر، والذي تلا إعلان جماعة «أنصار الله» عن استهداف أي شحنات بحرية تتعامل مع الكيان الصهيوني، وفي هذا الخصوص أعد مركز دراسات قاسيون مادة موسعة حول هذه النقطة، وخلص أن حصة الكيان من الشحنات التي تمر عبر قناة السويس لا يمكن أن تزيد عن 0.01% من إجمالي حجم التجارة العالمية التي تمر عبر القناة، هذا إذا افترضنا أن كل صادرات وواردات الكيان تمر من البحر الأحمر! ومن زاوية أخرى يحق لنا التشكيك بالجدوى من إنشاء تحالف جديد في ظل وجود تحالف مشكّل لهذا الغرض منذ عام 2001 «CMF» ويضم في صفوفه 39 دولة بالفعل، هذا إذا كان الهدف المعلن هو فعلاً ما تسعى واشنطن إلى تحقيقه، لكن الاستنتاج الذي خلصت له المادة المشار إليها، أن أحد الأهداف من الخطوة الأمريكية هي إعاقة كل الملاحة في البحر الأحمر، ليكون الهدف من ذلك الضغط على مصر، التي تعتمد بشكل كبير على إيراداتها من قناة السويس لتكون واشنطن أضافت بذلك عامل ضغط جديد على مصر، بعد الضغط الناتج عن عملية الكيان في القطاع والحديث المتواتر عن السعي إلى تهجير سكانه إلى سيناء المصرية. لا بهدف تصفية القضية الفلسطينية كما يشاع، بل بهدف الضغط على مصر ومحاولة تفجيرها، نظراً لأن تهجيراً كهذا إن حصل، لن يكون التهجير الأول الذي يفرض على الفلسطينيين، ولم يؤدِ ذلك في وقتٍ سابق، ولن يؤدي في أي وقتٍ لاحق إلى تصفية القضية، بل سيكون عاملاً إضافيا في إنعاشها ووضعها على سكة الحل.
الأهداف الأخرى التي يمكن الحديث عنها، هي المحاولة الأمريكية لزج السعودية في تحالف كهذا، وهو ما لا ترضى به القيادة السعودية، بهدف إعادة توريطها مجدداً في حرب مع اليمن، بعد أن بدأت السعودية تعمل بشكل حثيث على إغلاق هذا الملف، وإيجاد أرضية مناسبة لتفاهمات سياسية. سعي واشنطن لإشراك السعودية في هذه الخطوة يهدف أيضاً إلى توتير العلاقات مجدداً مع إيران، وخصوصاً في ظل السعي الأمريكي الدائم لتثبيط المساعي الصينية والروسية لرأب الصدع بين طهران والرياض.

هل يقف الآخرون مكتوفي الأيدي؟

الاستراتيجية الأمريكية التي عرضنا بعضاً يسيراً من جوانبها في المنطقة، تشكّل مع ذراعها المتقدمة «إسرائيل» وعملائها الآخرين الخطر الأساسي على الأمن في منطقتنا، والتطور اللافت في هذا الخصوص، أن الدول الأساسية في المنطقة بدأت تتحرك بدرجة أعلى من الاستقلالية للدفاع عن نفسها، في ظل الفوضى المسوّقة أمريكياً، ويجري ذلك على عدة مستويات، ربما يكون أبرزها: التنسيق المتواصل والموسع مع روسيا والصين، وما يعنيه ذلك من مساعٍ لتوحيد صفوف أصحاب المصلحة، في مواجهة الفوضى من دول المنطقة. ولم تعد الخطوات تقتصر على إعاقة المحاولات الأمريكية، بل أخذت تتوسع ليظهر كما لو أن هذه المحاولات تسرّع عمليات مواجهتها لا العكس.
في هذا السياق أجرى الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي اتصالاً مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، وأكد المتحدث باسم الرئاسة المصرية: أن الرئيسين بحثا خلال الاتصال تطورات الأوضاع في قطاع غزة، فضلاً عن متابعة النقاش حول القضايا العالقة بين البلدين، وأشار النائب السياسي لمكتب الرئيس الإيراني، أن الرئيسين «بحثا آخر التطورات في فلسطين، وأهمية الوحدة الإسلامية». واتفقا على «اتخاذ خطوات ملموسة للتسوية النهائية للقضايا بين البلدين» ما يعني اقتراب جدي لإعادة العلاقات بين مصر وإيران في لحظة حساسة وحرجة، بالرغم من الضغط الأمريكي في الاتجاه المقابل.
تتسق الخطوة المشار إليها، مع خطوات أخرى كثيرة، إذ استضافت بكين منذ أيام لقاءً جديداً بين إيران والسعودية، وتطرق البيان الختامي للقضية الفلسطينية، وضرورة التنسيق بين الدول الثلاث الموقعة عليه.
في روسيا أيضاً، ناقش نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف مع السفير الإيراني التطورات الأخيرة في المنطقة، وجرى ذلك بشكلٍ متوازٍ مع مشاركة وزير الخارجية الروسي في القمة الروسية- العربية، المنعقدة في مراكش، والتي أشار بيانها الختامي بشكلٍ واضح إلى دعم الدول المجتمعة لجهود مصر في مواجهة تبعات الحرب الصهيونية على غزة، وتقدير موقفها في إدخال المساعدات الإنسانية، ورفض تهجير الشعب الفلسطيني، ودعم جهودها في المصالحة الفلسطينية، التي باتت قضية ملحة أكثر من أي وقتٍ مضى.

التحركات التي تقوم بها الدول صاحبة المصلحة في مواجهة الاستراتيجية الأمريكية، والتي جرى عرض بعضها، تبدو حتى اللحظة بوصفها مؤتمرات وخطابات بعيدة عن الإجراءات الملموسة، وبالرغم من أن المطلوب في هذه اللحظات القاسية خطوات على الأرض لوقف العدوان، إلّا أن جمع هذه الدول في هذه اللحظات بالذات لتعلن عن «رؤاها المتطابقة» وتنسيق سياساتها حول القضية الفلسطينية، وآفاق حلّها، يعني الكثير، وخصوصاً أنه يجري بعيداً عن الولايات المتحدة والدول الغربية التي تدور في فلكها، ويمكننا القول: إنه لن يمر كثير من الوقت حتى تثمر هذه التحركات، لتكون أولى ثمارها، ضرب المحاولة الأمريكية والصهيونية الحالية لإحراق المنطقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1154