فرنسا: الانقسام حول قانون الهجرة يعكس خلافات أوسع
نشب خلاف وانقسام سياسي جديد داخل فرنسا، حمل عنوان مشروع قانون الهجرة الجديد الذي أقره البرلمان الفرنسي يوم الثلاثاء الماضي، ورغم أن مسألة الهجرة تُعد حدثاً بأبعاد سياسية داخل فرنسا وارتباطها بالاتحاد الأوروبي، إلا أنه كان شرارة أخرى تضيء على خلافات سياسية أعمق وأوسع تجري وتتطور.
تتعرض الحكومة الفرنسية منذ انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون وتشكيلها، إلى انتقادات سياسية وشعبية متسعة ومتزايدة بمرور الوقت، وتنوعت أشكالها من البيانات السياسية والعمالية المعارضة إلى احتجاجات عمالية وشعبية تزايد زخمها بمرور الوقت، وحول مسائل عديدة ومتنوعة شملت قوانين العمل وسن التقاعد وأسعار المحروقات واللبرلة، بالإضافة إلى انتقادات سياسية وشعبية حول السياسة الخارجية للحكومة الحالية بمختلف الملفات، وكل ذلك فضلاً عن الضربات السياسية التي تلقتها الحكومة الحالية دولياً، وكان من أبرزها انسحاب قواتها من إفريقيا وتحديداً من النيجر، بالإضافة لخلافاتها مع الجزائر. وبالمحصلة، أثرت كل هذه الأحداث على رصيد ماكرون وحكومته السياسي، بمقابل ارتفاع المؤشرات لصالح قوى أخرى.
ضمن هذه التطورات المحلية في فرنسا، والدولية المتعلقة بها، تتغير الخريطة السياسية بين القوى المختلفة بعلاقاتها مع بعضها البعض، ليأتي مشروع قانون الهجرة الجديد بوصفه تنازلاً من الحكومة لصالح التيارات اليمينية من جهة، وإشارةً بخطوة نحو تحالف جديد يجمعهم، كما أشار إليه رئيس حزب «فرنسا الأبية» اليساري جان لوك ميلانشون.
بعض مفردات القانون
يعمد مشروع قانون الهجرة الجديد– والذي تم رفعه للمجلس الدستوري من أجل بحث مدى دستوريته– على عدة مسائل تشدد إجراءات الهجرة إلى فرنسا، وعلى المهاجرين الموجودين بها أساساً، وبمجمله فإن القانون يرفع من مستوى الأيديولوجيا القومية– اليمينية المتطرفة داخل المجتمع الفرنسي، كما وصفته مارين لوبان رئيسة حزب «التجمع الوطني» اليمينية صراحة، بأن الحدث شكل «انتصاراً إيديولوجياً».
تنطوي بعض مفردات القانون الجديد على تسريع البتّ وتنفيذ إجراءات اللجوء، وتقصير فترات الاستئناف المتعلقة بها، وتشديد شروط التأشيرات الطبية، وجعل إجراءات وشروط لم شمل الأسر أكثر صعوبة، وإمكانية ترحيل الأشخاص اللذين كان عمرهم أقل من 13 عاماً حين قدموا إلى فرنسا، وإمكانية ترحيل الآباء والأمهات الذين يحمل أطفالهم الجنسية الفرنسية، وإمكانية سحب الجنسية الفرنسية عن مزدوجي الجنسية، ممن يرتكبون جنح ما، وفرض إنشاء وديعة مالية على الطلاب الأجانب من خارج الاتحاد الأوروبي لحصولهم على تأشيرة دراسة، واسترجاع وديعتهم عند مغادرتهم البلاد، من أجل ضمان عودتهم، وغيرها من الأمور.
ردود الأفعال
لاقى هذا القانون الذي بات يسمى بـ «قانون دارمانين» نسبةً إلى عرّابه وداعمه الأكبر وزير الداخلية جيرالد دارمانين، ترحيباً شديداً من قبل الحكومة والتيارات والأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة في فرنسا، وذلك بعد تأييد 349 عضواً برلمانياً له ومعارضة 186 فقط.
وقال دارمانين بعد إقرار مشروع القانون من البرلمان الفرنسي: «إن نص الهجرة تم إقراره بشكل نهائي. معركة طويلة من أجل دمج أفضل للأجانب، وطرد أولئك الذين يرتكبون أعمالا إجرامية. نصّ قوي وحازم لحماية الفرنسيين ولتسوية أوضاع العمال غير الشرعيين».
واعتبر رئيس حزب الجمهوريين إريك سيوتي أنه «انتصار تاريخي لليمين [...] قانون جمهوري لمكافحة الهجرة الجماعية».
بالمقابل، ندد رئيس حزب «فرنسا الأبيّة» جان لوك ميلانشون بالقانون، وقال: إنه «نصرٌ مقززٌ» وأشار «لقد تأسس محور سياسي جديد» بإشارة إلى التحالف بين الحكومة والأحزاب اليمينية، واليمينية المتطرفة.
كما أعلن الحزب الاشتراكي الفرنسي عزمه على الطعن بنصّ القانون أمام المجلس الدستوري، وذكرت وكالة الصحافة الفرنسية، أن «هذا القانون ينطوي على عواقب سياسية خطيرة».
وقام وزير الصحّة أوريليات روسو بتقديم استقالته اعتراضاً على القانون، واستُبدل بالوزيرة المكلفة أنييس فيرمان لو بودو، ورفض الرئيس الفرنسي استقالة وزيرة التعليم العالي والبحث سيلفي ريتايو، وعمّت المدن الفرنسية تظاهرات شعبية عديدة احتجاجاً على القانون.
محاور سياسية جديدة
يعكس هذا القانون الجديد وجود وتعاظم تقاطع بالمصالح بين الحكومة الفرنسية الليبرالية الحالية والتيارات والأحزاب اليمينية، واليمينية المتطرفة بمجموعها، تحت ضغط الأحداث والتطورات الداخلية والدولية، ليؤدي هذا التقاطع إلى تقارب وتأسيس نواة لـ «تحالف» أو «محور» يتكوّن بمواجهة تيارات يسارية جذرية، لضمان استمرار إبعادها عن سلطة وقيادة البلاد، بما يضمن لاحقاً جمع أصوات ناخبي مختلف التيارات والأحزاب الليبرالية واليمينية لصالح الحظ الأوفر بينهم، ولضمان مصالحهم.
في المقابل، لا يزال التقارب بين التيارات اليسارية في فرنسا بدرجات متواضعة، إلا أنّ مثل هذه التطورات ستدفع بشكل موضوعي نحو فرز أوضح وأوسع وأعمق بين اليسار واليمين الفعليين داخل البلاد، وتمحى الحدود والهوامش الوهمية بينهم نحو فصل واضح، واستناداً للموضوعات والعناوين الأكثر جذريةً سواء بالسياسة الداخلية أو الخارجية لفرنسا.
خارجياً كما الداخلي: الموقف من فلسطين
في هذا الإطار، يبرز عن اليسار وبشكل خاص حزب «فرنسا الأبية» بقيادة جان لوك ميلانشون، والذي أعلن في الفترة السابقة مواقف جريئة فيما يتعلق بالملف الفلسطيني، نظراً لحساسية التعاطي السياسي معه داخل المجتمع الغربي ككل، فلم يدخل جوقة «إدانة حماس» واعتبر بيان للحزب أن «الهجوم المسلّح لقوات فلسطينية بقيادة حماس يأتي في سياق تكثيف سياسة الاحتلال الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية» وقال ميلانشون: إن «كل أعمال العنف التي أُطلق لها العنان ضد إسرائيل وفي غزة، تثبت أمراً واحداً فقط، وهو أن العنف لا ينتج ولا يعيد سوى إنتاج نفسه» مطالباً فرنسا بالعمل على وقف إطلاق النار، ودعا إلى تنفيذ حل الدولتين وفقاً للقرارات الدولية.
بطبيعة الحال، اتُهِم حزب «فرنسا الأبية» وميلانشون بكليشيهات معاداة السامية، حيث اتهمته بذلك رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، منددة بـ «الغموض» الذي اكتنف موقفه، واعتبرت أن معاداة الصهيونية في حزب «فرنسا الأبية» وسيلة لإخفاء معاداة السامية، وشُنت عليه حملة من مختلف الأحزاب.
رداً على ذلك، صرح ميلانشون: إن «الموافقة على المجزرة المستمرة عار على بورن، فرنسا لا تتحدّث على هذا النحو» بإشارة إلى اعتداءات الكيان الصهيوني على قطاع غزة، وتوصيفاً واضحاً بإجرامه من قبل الحزب.
فرز مستمر
إن تباين المواقف تجاه مسألة قانون الهجرة كمثال واحد على حدث داخلي (غيره سن التقاعد وأسعار المحروقات)، والملف الفلسطيني كمثال واحد على حدث خارجي (غيره الحدث الأوكراني والوجود العسكري في إفريقيا)، يشير إلى أن مجريات وتطورات الحاضر تدفع وتسرع من عمليات الفرز بين اليمين واليسار دولياً وفي كل دولة على حدة، وبسياق موضوعنا الآن، فرنسا تشكل مثالاً واضحاً على هذا الأمر، إذ يتطور الفرز هناك باتجاه تجاوز الحدود الشكلية والاسمية للـ «اليمين واليسار» عبر إعادة ترتيب أولويات الشعب الفرنسي التي تتعارض مع السياسات الليبرالية الداخلية، التي جرى التغطية عليها عبر عقود طويلة من نهب الشعوب الأخرى وخاصة في إفريقيا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1154