ما الذي يُقلق الأنظمة في «دعم القضية الفلسطينية»؟
تستمر التحركات الشعبية الداعمة للقضية الفلسطينية ووقف فوري لإطلاق النار حول العالم، ورغم أن التحركات التي يشارك فيها الملايين تبدو استجابة طبيعية للسلوك الإجرامي الذي تمارسه قوات الاحتلال في حربها على غزّة، إلا أن مراقبتها بدقة تكشف أمامنا أن هذه الاحتجاجات أصبحت جزءاً من حالة استقطاب وفرز على المستوى الدولي، وإن كانت «مساندة القضية الفلسطينية» هي اليافطة الأساسية في المظاهرات الآن، فهذا لا يعني أن القضايا الأخرى بالنسبة لهذه الحشود ستظل غائبة.
الشكل الذي يعبر به الناس اليوم عن دعمهم للقضية الفلسطينية يحمل جانباً آخر، وإن لم يتضح بعد. فإذا أخذنا الدول الغربية كمثال على ذلك، بات واضحاً أن أي تحرك في هذا السياق سيصطدم أولاً بمواقف وسياسات حكومات هذه البلدان، التي بدت مواقفها أكثر فجاجة، ولم يعد بالإمكان تغطيتها، فقرارات منع وتجريم المظاهرات تكشف أمام شعوب هذه البلدان بالتحديد، الدور الذي تلعبه حكوماتهم على الساحة العالمية وبأي صفٍ تقف.
فرنسا من جديد
في الأسبوع الماضي نجح مجلس الدولة الفرنسي بإبطال قرار الحكومة بحظر المظاهرات المؤيدة لفلسطين، لكن خروج هذه المظاهرات في فرنسا التي يدعم نظامها الكيان بشكل مباشر، يبدو أنه يشكّل ضغطاً حقيقياً على الحكومة، فهذه المرة حظر قائد شرطة العاصمة باريس لوران نونيز خروج مظاهرات جديدة، وأيّدت المحكمة الإدارية بباريس قرار الحظر هذا، وكان نونيز اعتبر أن بعض المنظمين لهذه التحركات «أدلو بتصريحات داعمة لحماس» ما حاول من خلاله تبرير خطوته تلك، وخصوصاً أن فرنسا تصنّف حركة المقاومة الاسلامية كمنظمة إرهابية. التطورات هذه لم تمنع الاحتجاجات من الخروج في شوارع العاصمة، واصطدمت التجمعات بقوى الأمن والشرطة، وليس من الصعب القول: إن هذا التجاذب بين الشارع والسلطات الفرنسية ليس موضوعاً منفصلاً عن كل القضايا الأخرى التي دفعت الفرنسيين للخروج إلى الشارع، ولا يُستغرب أن يتطور المشهد إذا ما استمرت الحرب واستمرت الحكومة الفرنسية في سياستها الحالية.
المظاهرات في لندن
تظاهر أكثر من مئة ألف شخص في شوارع لندن، داعين إلى وقف القصف في غزة.
ولم تقتصر المظاهرات على لندن فحسب، بل شهدت مدن أخرى في المملكة المتحدة، مثل: مانشستر وغلاسكو احتجاجات مماثلة.
وفي لندن، بدأ المتظاهرون يتجمعون بجانب جسر جوبيلي لاين الذهبي، رافعين اللافتات التي تطالب بحرية فلسطين ووقف الاحتلال، وهتفوا بشعارات تنادي بوقف تسليح إسرائيل ودعم فلسطين.
ونظمت المظاهرة عدة مجموعات منها «حملة التضامن مع فلسطين»، وسط وجود أمني مكثف، إذ أُعلن في وقت سابق نشر أكثر من 1000 شرطي.
وسار الحشد في وقت لاحق نحو مكتب رئيس الوزراء في «داونينغ ستريت» حيث انتقدوا دعم حكومة المملكة المتحدة لإسرائيل.
وردد المشاركون هتافات مناهضة للاحتلال الإسرائيلي، وحملوا الأعلام الفلسطينية ولافتات كتب على بعضها: «الحرية لفلسطين» و«العقوبات على إسرائيل» و«وقفوا تسليح إسرائيل».
في سويسرا لا مكان للحياد!
بعد أن ساهمت الولايات المتحدة عبر ضغطها على سويسرا منذ الحرب الروسية الأوكرانية بتحويل البلد الذي كان يعد محايداً إلى بلد منخرط في المواجهة الغربية مع روسيا، إلى تلك الدرجة التي اضطرت موسكو لتكرار موقفها القائل بإن سويسرا لم تعد تتمتع بمكانتها السابقة كمنطقة محايدة، المثير للانتباه في هذا السياق أن الشارع في سويسرا وتحديداً الجالية العربية هناك، يبدو أكثر استعداداً للخروج عن هذا «الحياد» لكن بما يخالف سياسة النظام القائم، إذ خرجت في جنيف وبرن مظاهرات تجمّع فيها الآلاف، ما يبدو أنه لن يكون التحرك الأخير، ما دفع حزب اتحاد الوسط الديمقراطي إلى إصدار بيان يطالب فيها الحكومة والمجالس التنفيذية في سويسرا «لفرض حظر فوري وقمع صارم للمظاهرات الفلسطينية وغيرها من مظاهر التضامن مع الفلسطينيين»، الحزب هو أكبر الأحزاب السياسية في البرلمان، ويسيطر على أكثر من ربع المقاعد، وله تمثيل في مجلس الشيوخ والحكومة، الموقف هذا وإن كان متوقعاً إلا أنه يعكس حالة من الصدام المرتقبة داخل سويسرا، وخصوصاً أن تحركات الشارع هناك- حتى السابقة منها- تشير إلى درجة نشاط سياسي ترتفع هناك. من الجدير بالذكر أن مظاهرات خرجت في سويسرا الأسبوع الماضي رغم حظر السلطات في بازل وزيورخ.
في الدول العربية
الاحتجاجات الداعمة للقضية الفلسطينية التي خرجت في معظم الدول العربية، لا تعتبر حدثاً مستهجناً كون القضية كانت دائماً حاضرة، لكن ما يثير الاهتمام وتحديداً في هذه اللحظة، هو أن الأنظمة العربية وحتى تلك التي تعلن في خطابها موقفاً داعماً لفلسطين، وحق شعبها بالمقاومة، لا تبدو مرتاحة لهذه التحركات الشعبية بل تحاول قمعها وفرض القيود عليها وتحجيمها، وتعيق بشكلٍ أو آخر تحول «القضية الفلسطينية» إلى موضوع جديد للتحركات الشعبية، ما يطرح سؤالاً حول أسباب كل هذا القلق، وهنا يبدو الجواب بسيطاً، فالنظام الرسمي العربي يتحمّل جزءاً أساسياً من المسؤولية، وخصوصاً أولئك الذين ذهبوا لتوقيع اتفاقيات تطبيع مع الكيان متجاهلين كل تاريخه في المنطقة، وأثر هذه الاتفاقيات عليهم تحديداً، فإذا أخذنا مثالاً ملموساً من مصر، نستطيع القول: إن أي تحرك شعبي واسع في مصر لدعم القضية الفلسطينية لن يتجاهل الانتكاسة المصرية منذ كامب ديفيد، وكيف كانت هذه الاتفاقية نقطة علّام فارقة في حجم الدور المصري في المنطقة، إذ أن الوزن المصري أخذ بالتراجع من بعدها ليصل حد الانكفاء، وترافق هذا مع اعتماد وصفات الليبرالية الاقتصادية التي دفعت مصر إلى سلسلة من الأزمات الاقتصادية المحلية، وجعلتها في حالة من التبعية بعد أن كانت البلاد خطت خطوات جدية في وقتٍ سابق لتحقيق مستويات مرتفعة من الاستقلال والاعتماد على الذات، واليوم يمكن لمظاهرات من هذا النوع أن تدعم اتجاهً موجوداً بلا شك داخل المجتمع وجهاز الدولة، يرى أن التطورات الحالية وتحديداً الضغط على مصر بشكل معلن عبر خطط تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، أو الاستهداف المتكرر لإراضيها، يمكن أن يكون فرصة لدفع الأمور بالاتجاه المعاكس، أي لإعادة استعادة الدور المصري في الإقليم والمنطقة العربية، عبر إلغاء كامب ديفيد وآثارها واستعادة لياقة البلاد التي تسمح لها إمكاناتها بلعب دور أساسي في المنطقة.
الانقسام العالمي اليوم حول ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة له حدود واضحة لم يعد بالإمكان المواربة والتنقل بينها، فإما دعم القضية وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة شأنه في ذلك شأن أي حركة تحرر وطني في التاريخ، وإما الوقوف بجانب الكيان الصهيوني. وإذا ما حاولنا تحديد ما الذي يعنيه الوقوف في أيٍّ من هذين الجانبين فنقول: إن دعم الكيان في هذه اللحظة يعني الوقوف في معسكر الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، مع ما يعنيه ذلك من الخروج وبشكلٍ علني عن الشرعية الدولية، وتجاهل قرارات الأمم المتحدة، والأخطر من ذلك، هو أن دعم الكيان ووقوف الولايات المتحدة إلى جانبه عسكرياً وبشكلٍ معلن، يعني دفع منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية إلى مواجهة واسعة جديدة، سيكون لها تأثيرات كبرى على الاستقرار العالمي. من جانبٍ آخر سيفرض دعم القضية الفلسطينية وتبنيها بشكلٍ جديٍ على كافة الدول، إعادة النظر بالعلاقات مع الغرب، وسيساهم بشكلٍ فاعل في بناء وتدعيم جبهة تتشكل بالفعل لكسر الهيمنة الغربية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1146