ما يجري في فرنسا ليس شأناً داخلياً فحسب!
هدأت وتيرة وحدّة الاحتجاجات الفرنسية قليلاً خلال الأسبوع الماضي، وذلك بعد مرورها بفترة من الاضطرابات والمواجهات الواسعة بين المحتجين وقوى الأمن في مختلف المدن الفرنسية، وأصدرت السلطات الفرنسية عدداً من المقترحات والقرارات التصعيدية تجاه هذه التطورات، فضلاً عن محاولات تشويه طبيعة وحقيقة الصراع الجاري، واقتصاره بمسألة الهجرة والمهاجرين.
إجراءات قاصرة!
اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الثلاثاء الماضي، أن ذروة الاضطرابات في البلاد قد انتهت وتم تخطيها، مشيراً إلى «توخي الحذر بشأن الأيام والأسابيع المقبلة» مشدداً أن «الأولوية المطلقة الآن يجب أن تكون لضمان النظام على المدى الطويل» ليقترح في اليوم التالي وضمن السياق نفسه قطع شبكات التواصل الاجتماعي خلال فترات الاضطرابات الشبيهة، قائلاً: «نحتاج إلى التفكير في كيفية استخدام الشباب للشبكات الاجتماعية... عندما تخرج الأمور عن السيطرة، قد نضطر إلى تنظيمها أو قطعها».
وقال المتحدث باسم مجلس الوزراء الفرنسي أوليفييه فيران: إن الحكومة تخطط لتشكيل مجموعة من البرلمانيين للتفكير بفرض قيود إضافية على المنصات الرقمية، خلال الاضطرابات قائلاً: «إننا نريد أن تكون مجموعة العمل المشتركة بين الأحزاب، والتي ستضم البرلمانيين من جميع الحركات السياسية، قادرة بشكل مشترك على النظر في التغييرات على مشروع القانون الذي تم رفعه إلى مجلس الوزراء قبل أسابيع قليلة، والذي يؤثر على الأمن السيبراني واستخدام الأدوات الرقمية».
وفي يوم الأربعاء أجمع مشرعون فرنسيون على نقطة من ضمن مشروع قانون لـ «إصلاح العدالة» في فرنسا تتيح لشرطة البلاد إمكانية التجسس على المشتبه بهم عبر تشغيل كاميرات وميكروفونات وأنظمة تحديد المواقع في هواتفهم، أو بأية أجهزة أخرى كالحواسيب والمركبات عن بعد، بينما قام نواب بإدخال تعديلات تحدد استخدام «التجسس» حينما «تبرره طبيعة الجريمة وخطورتها» بحد قولهم، مشيرين إلى أن العاملين بمهن حساسة كالأطباء والصحفيين والمحامين والقضاة والنواب لن يكونوا أهدافاً مشروعة ضمن مشروع القانون الذي يجري العمل عليه، ليقابل هذا الطرح بردود فعل سلبية واسعة من قبل الفرنسيين عموماً والتيارات المصنفة يساراً، في النهاية .
حرف الصراع عن مساره
تحاول بعض الأطراف تشويه حقيقة الصراع الجاري عبر تفسير ما يجري في فرنسا بمختلف الأشكال الساذجة والتحريفية بالمعنى النظري: من إلقاء ايمانويل ماكرون بلومه على «ألعاب الفيديو» واستخدام المراهقين لمواقع التواصل الاجتماعي وتقليدهم الألعاب الإلكترونية، إلى تفسير الاحتجاجات وحصرها بالمهاجرين المهمشين من قبل بعض السياسيين، ليبدو صراعاً ما بين أجانب مختلفين وفرنسيين، مروراً باعتبار أن ما يجري يمهد لحرباً أهلية فرنسية، أو أن ما يحصل وفقاً لعالم الاجتماع الفرنسي أوليفيه غالان يعبر عن «كراهية للشرطة منتشرة جداً بين الشباب في المدن تتحول إلى حقد عند وقوع حادث مأساوي، وهناك اقتصاد موازٍ في العديد من هذه الأحياء، وأنشطة منحرفة واتجار يشارك فيه عدد من هؤلاء الشباب، يتسبب بعمليات تفتيش أكثر تواتراً وبتوتر مع الشرطة، وبما نسمّيه أيضا بالتمييز الإحصائي».
يحاول هؤلاء ما بوسعهم تقديم أية تفسيرات وتوضيحات لما يجري، إلا الحقيقية منها والمتعلقة مباشرة بعلاقة الناهبين والمنهوبين، وطبيعة النظام السياسي القائم بأسره، والذي يدفع الفرنسيون منذ سنين وبشكل متصاعد ومتطور نحو تغييره تماماً.
ما المقلق في فرنسا بالذات؟
تدعم هذه التفسيرات الفرنسية كافة الأنظمة الغربية ومعظم سياسييها ومنظريها الليبراليين، ويؤيدون بشكل رئيسي الأطروحة المتمثلة بالمهاجرين لما لها علاقة وصدى في بلدانهم أيضاً، ويعزا هذا الدعم بشكل أساس لتخوفات هذه البلدان من تأثر شعوبها بالنشاط والحالة الفرنسية، وانتقال عدوى الاحتجاجات والاضطرابات إليها، وتحديداً من فرنسا التي كانت تاريخياً لاعباً فاعلاً وهاماً بإطلاق شرارات من هذا النوع على المستوى الأوروبي ككل. إذ تنظر معظم الدول الأوروبية بحالة قلق جدي وتراقب تطور الأحداث في فرنسا، وكان أبرزها تصريحات المستشار الألماني أولف شولتز، إذ قال: إنه يتابع الأحداث في فرنسا بقلق، وأضاف: أن لديه أمل كبير في أن يتمكن ماكرون من «تحسين الأوضاع سريعاً». فعلى الرغم من أن البعض يقرأ هذه التصريحات بوصفها كلمات معتادة يطلقها السياسيون في حالات كهذه، لكن الحالة هنا تبدو مختلفة بعض الشيء، فشولتز الذي كان يقول رأيه في الأوضاع الفرنسية، وجد نفسه وفي المقابلة الإعلامة ذاتها، مضطراً لتقديم «التطمينات» أن ألمانيا لن تسير هي الأخرى في طريق الاحتجاجات، وقال ساخراً: إن من وصفهم بـ «أحزاب المساج السيء» حذروا سابقاً من «شتاء غضب» أو «خريف غضب» لكن ذلك لم يحدث!
شولتز الذي يرى أن بلاده فعلت الكثير لتجنب الدخول في حالة من الإضرابات الاجتماعية، يدرك بوضوح أن بلدان أوروبا كلها ليست بعيدة عمّا يجري في فرنسا، ولا يستغرب أن ترى الدول الأوروبية الأخرى أن التعامل مع الاحتجاجات والأوضاع الحالية ليس شأناً فرنسياً فحسب، بل هو بمثابة مشكلة يجب على الأنظمة السياسية في أوروبا التعامل معها قبل أن تتحول إلى «مشكلة عصية على الحل».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1130