روسيا حُبلى بتغييرات داخلية تناسب دورها الدولي وطبيعة العالم الجديد
عاشت روسيا، يوم الأمس، السبت 24 حزيران، يوماً حافلاً مليئاً بالتطورات السريعة؛ إذ كان رئيس شركة «فاغنر» العسكرية الخاصة، قد دعا لعصيان عسكري في الصباح، وسيطرت قواته على مقرات عسكرية في جنوب غرب روسيا، لينتهي اليوم نفسه باتفاق عبر وساطة بيلاروسيا. وبالرغم من أن الهدوء عاد تدريجياً إلى المناطق المتوترة، إلا أن الفهم العميق لما يجري يؤكد أنها البداية فحسب!
يركّز الجزء الأساسي من تغطية وسائل الإعلام للمسألة على الجوانب الأمنية- العسكرية، وذلك بالرغم من تصريحات يفغيني بريغوجين قائد «فاغنر» ذات الأبعاد السياسية. وفي تجاهل تام لكامل الظرف السياسي الروسي، الخارجي والداخلي، الذي يمكن من خلاله فقط فهم التطورات التي جرت خلال 24 ساعة الماضية.
كيف تطورت الأمور لهذه الدرجة؟
لا شك، أنّ أي متابع للشأن الروسي يدرك أن بريغوجين وجّه في الفترة الماضية عدّة انتقادات للدولة الروسية، وتحديداً لوزارة الدفاع وقيادة أركان الجيش، اعتمد فيها بشكل أساسي على الأصوات المشككة بأداء القوات الروسية، وهو ما دفعه لوصف مسؤولي وزارة الدفاع بالتراخي والبيروقراطية في أكثر من مناسبة، حتى أنّ بريغوجين وجّه اتهامات لوزارة الدفاع بأنها أبطأت عمداً وصول الإمدادات لقوات «فاغنر» المقاتلة في أوكرانيا والتي سبق أن حققت نجاحات على الجبهة في عدّة معارك. والجدير ذكره، أن الدعاية التي رافقت انتقادات بريغوجين حاولت الإيحاء بأن هنالك انقساماً بين وزارة الدفاع الروسية والرئاسة التي «وقفت في صف فاغنر» حسب هذه الادعاءات، لكن التطورات التي حصلت منذ بداية هذا الشهر بدأت تظهر الصورة بشكلٍ مختلف؛ فبعد أن سلمت «فاغنر» باخموت للجيش النظامي، أعلن وزير الدفاع أن أمام المتطوعين الذين يقاتلون على الجبهات مهلة حتى بداية شهر تموز القادم حتى يوقعوا عقوداً ليعملوا ضمن مرتبات وزارة الدفاع، ما يعني تغييراً في وضع الشركة قانونياً وعسكرياً، وعملياً، فهو يعني إنهاء الشركة تدريجياً، وهو ما دفع بريغوجين لرفض الامتثال للقرار، متذرعاً بأنّ سيرغي شويغو شخصية «غير مؤهلة لقيادة القوات في الميدان» ولم يغيّر موقفه حتى بعد أن بات واضحاً أن هناك توافقاً حول هذه المسألة بين وزارة الدفاع والرئاسة. ما يعني أن بريغوجين كان يتوقع مسبقاً موقف الرئيس الروسي من خطوته التي بدأها يوم السبت، وذلك لم يمنعه من إطلاق التهديدات وإعلان نواياه بالزحف على موسكو، ما يجعل ما حصل أقرب لكونه محاولة انقلابية. فإعلانٌ كهذا يستوجب رداً حاسماً من قبل الدولة، ويضع قائد «فاغنر» في مواجه مفتوحة، وهو ما سنحاول تفسيره لاحقاً في هذا المقال.
احتواء الموقف والوساطة البيلاروسية
بدأت ردود الفعل على «التمرد المسلح» تظهر تباعاً، وكان أبرزها: كلمة الرئيس الروسي، وتصريحات للمتحدثة باسم وزارة الخارجية، وبيان رسمي صدر عن الوزارة أيضاً، هذا بالإضافة إلى مواقف معلنة من عدد من الشخصيات ومؤسسات الدولة، مثل: دميتري مدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين وغيرهما. وركزت معظم هذه المواقف على وجود محرك خارجي لما يجري، وبأن هناك محاولات لجر روسيا نحو التقسيم والحرب الأهلية، ودفعها نحو حالة من عدم الاستقرار تؤثر لا على مجريات المعارك في أوكرانيا فحسب، بل وعلى مجمل الدور الروسي العالمي في هذه اللحظات المفصلية. وبالرغم من تأكيد بوتين أن هذه المحاولة سوف يتم سحقها والتعامل معها، وهو ما ترافق مع عدد من الإجراءات الأمنية والعسكرية في عدة مناطق حساسة في البلاد، إلا أن الخطوة الأولى بدأت عبر إرسال نائب وزير الدفاع الروسي قبل حدوث مواجهات جديّة بين «فاغنر» والجيش، بهدف إجراء مفاوضات مع بريغوجين، ليتقدم لاحقاً الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بطلب للدخول في الوساطة بهدف الوصول إلى تهدئة، وهو ما استطاع الوصول له بعد محادثات مع كافة الأطراف، ليعلن مساء اليوم نفسه 24 حزيران عن التوصل لاتفاق، أعلن المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديميتري بيسكوف بعضاً من بنوده: كان أبرزها: فتح الباب أمام مقاتلي «فاغنر» ممن رفضوا الانخراط في حملة بريغوجين للانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية، والتعاقد مع وزارة الدفاع. ولا يتعرض هؤلاء لأية ملاحقة قانونية، ويلزم الاتفاق قوات «فاغنر» بأن تعود إلى معسكراتها بالتوازي مع إغلاق القضية الجنائية بحق بريغوجين على أن يغادر إلى بيلاروسيا. وأشار بيسكوف أيضاً إلى أن الجزء من مقاتلي «فاغنر» الذي يرغب في العودة إلى المعسكرات يتوجب عليه توقيع اتفاقية مع وزارة الدفاع.
بعد الإعلان عن التوصل لهذا الاتفاق، أمر بريغوجين قواته بوقف تحركاتها والعودة إلى المعسكرات، وغادر مقر قيادة الجيش الجنوبية التي سيطر عليها في الصباح.
استنتاجات أولية!
إذا أردنا إعادة رسم الصورة الكاملة، سيبدو واضحاً أن خطوات بريغوجين لم تكن مفاجئة، بل كانت هناك سلسلة خطوات تمهيدية لما حصل، ويمكن رصد مئات التصريحات والخلافات التي تسرب بعضها إلى وسائل الإعلام الروسية المحلية منذ أشهر. ما يجعلنا أمام مجموعة من الاحتمالات. أحدها: أن قائد «فاغنر» قام بمغامرة خطيرة (حسب وصف الخارجية الروسية)، ما يطرح سؤالاً: هل حقاً كان بريغوجين يرى أنه يملك الوزن العسكري الكافي للدخول في معركة من هذا النوع؟ بالطبع لا! ونظراً لخبرته العسكرية المفترضة كان من السهل له أن يدرك أن هذه الخطوة لن تكون سهلة وربما تكون مستحيلة! ما يجعل الاستنتاج أن محاولته هذه كانت جزءاً من سلسلة مفترضة من الخطوات المتزامنة في الداخل والخارج، والتي ربما فشلت، أو جرى إفشالها بعد أن جرى كشفها، وهو ما دفعه للقبول بالاتفاق بهذه السرعة دون الدخول في معارك حقيقية. أي أن بريغوجين كان يراهن على خطوات متزامنة من داخل جهاز الدولة في روسيا، لكنها ولسبب ما لم تحصل! والمثير للانتباه أن هناك عدداً من المؤشرات على علاقات تجمع شخصيات داخل جهاز الدولة بجهات خارج هذا الجهاز، كان أبرزها: المثال الذي حصل منذ أسابيع قليلة، إذ بعد إقالة نائب وزير الدفاع ميخائيل ميزينتسيف انتشرت في وسائل الإعلام صور ظهر فيها ميزينتسيف إلى جانب قائد «فاغنر» بعد تعيينه كنائب له! ليتجول نائب الوزير المقال بعد أن أصبح عضواً في «فاغنر» على خطوط القتال في الجبهة.
احتمال ثانٍ
الاستنتاج الآخر الذي يمكن الإشارة إليه، هو أن يكون المأزق الذي وصل له بريغوجين خطوة أولى في مخطط أكبر، فبعد قرار وزارة الدفاع القاضي بإجبار المتطوعين لتوقيع عقود مع وزارة الدفاع، والعمل ضمن مرتباتها وتحت إمرتها أو تسليم السلاح، لم يكن من الصعب الاستنتاج أن وضع «فاغنر» سيتم حلّه بشكل نهائي ويمكن القول: إن قراراً من هذا النوع يعني ضمنياً حل هذه الشركة أو «تأميمها» حسب تفسير البعض لهذه الخطوة، وهو ما يعني أن خطوة بريغوجين كانت تمهيداً استعراضياً لدور لاحق يسعى للعبه، وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بعض تصريحاته الأخيرة التي انتقدت قرار الحرب في أوكرانيا، واعتبرته «قراراً اتخذته نخب في وزارة الدفاع لمصالح شخصية» وأنه كان قراراً خاطئاً أدخل البلاد في مأزق، وهو ما يبدو تمهيداً لتحول في موقفه يسمح له بتمثيل فئات واسعة من المعارضة الروسية، بوصفه «مناهضاً للحرب»! وأحد ضحايا البيروقراطية والفساد!
الأيام القادمة ستجعل الصور أكثر وضوحاً، وتسمح لنا بفهم أعمق لما يجري، لكن ما ينبغي قوله أن 24 حزيران سيتحول إلى نقطة علام جديدة في التاريخ الروسي، فقائد «فاغنر» لم يتخذ هذا القرار حتماً دون تنسيق مسبق مع قوى في الداخل وفي الخارج، وما جرى يمكن وصفه بأنه خطوة أولية لمرحلة جديدة لم يعد الصراع الداخلي في روسيا موضوعاً فيها تحت الطاولة، بل أصبح في الشوارع وأمام الكاميرات! والأهم من ذلك، هو أن يدرك الجميع أن «مغامرة» كهذه لم يكن لها أن تبدأ لو لم تكن الظروف الداخلية تسمح بذلك، وأن التناقضات باتت محتدمة بشدة، وعلى وشك الانفجار، وأنّ روسيا باتت حُبلى بتغييرات كبرى حقيقية تتناسب مع الدور الذي تلعبه دولياً، ومع مجمل التحولات الجارية في التوازن الدولي. الغرب يدرك من اللحظة الأولى أن الجيش الأوكراني وبرغم كل أنواع الدعم لن يكون قادراً على تحقيق نجاح حاسم في هذه الحرب، وراهنوا لذلك على «شيء ما يمكن أن يحصل في الداخل» ولا يمكن لرهان كهذا أن يؤخذ بالحسبان لو لم يكن هناك في الداخل الروسي من كان يستعد بالفعل للقيام بهذه الخطوة، ومن كانت مصالحه الاقتصادية مرتبطة بالغرب وخاصة الأليغارش والنخب الليبرالية التي ما يزال كثير منها في مواقعه، وهي قوى موجودة في جهاز الدولة والمجتمع، ولم تكن تريد المعركة في أوكرانيا نهائياً... بالمقابل، هنالك أيضاً قوى واسعة في جهاز الدولة والمجتمع، والمحصلة لها حتى الآن، تعاملت مع معركة أوكرانيا منذ اللحظة الأولى بوصفها خياراً إجبارياً للتعامل مع خطر من العيار الثقيل يهدد أمن البلاد ووحدتها، وتدرك هذه القوى أنها محكومة بمواجهة قوى أخرى موجودة أيضاً في جهاز الدولة والمجتمع، قوى ارتبطت مصالحها بمرحلة نهب روسيا من قبل الغرب، ولا يمكن التعويل على قوى كهذه في أن تقود عملية تحطيم الهيمنة الغربية، وإنهاء العالم القديم، بل ينبغي عزلها ومواجهتها عبر اعتماد برنامج سياسي جديد جذرياً، يعيد توزيع الثروة المنهوبة، ويمنع أي احتمال للعودة إلى التسعينيات السوداء!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1128