السعودية… تحوّل جذري أم مناورة؟

السعودية… تحوّل جذري أم مناورة؟

مع زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إلى السعودية، عاد التشكيك بجذرية التحولات الجارية في المملكة العربية، فرغم أن العلاقات بين واشنطن والرياض كانت مضطربة بشدة في الفترة الماضية، إلا أنّ التعاون اللصيق الممتد لعقود طويلة بين البلدين يجعل فكرة انفكاك الأخيرة عن الولايات المتحدة تبدو للبعض كما لو أنها جزء من قصة خيال علمي لا أكثر!

أنهى سوليفان رحلة عمل إلى جدة، التقى فيها بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ونظرائه من السعودية والهند والإمارات العربية المتحدة، جرى على هامشها تداول جملة من المسائل، وأشارت تقارير إعلامية إلى بعض أهداف هذه الزيارة.

مشاريع البنية التحتية

قبل الغوص في طبيعة التغيرات الجارية في السعودية، ينبغي وضع زيارة مستشار الأمن القومي ضمن سياقها وحجمها الطبيعي، فالزيارة حصلت بلا شك، وستتبعها زيارة لوزير الخارجية أنتوني بلينكن، لكن حدوثها لا يعني حل المشاكل العالقة بين البلدين، تلك التي عجز رأس الهرم الأمريكي عن حلها سابقاً. فالولايات المتحدة سعت في لقاءات جدّة إلى تغيير جملة من المسائل، كان أبرزها: وضع الصين المميز، فبكين تحولت بسرعة إلى الشريك التجاري الأول لمعظم بلدان المنطقة والعالم، وتقدّم استثمارات ضخمة في قطاعات البنية التحتية من محطات الطاقة التقليدية والنووية، وشبكات الاتصالات المتطورة، هذا فضلاً عن تطوير الموانئ وطرق النقل البري وسكك الحديد. وهو ما دفع واشنطن لطرح مشروع إنشاء شبكة من سكك الحديد تربط بين الخليج العربي والموانئ المنتشرة فيه مع الهند، لتكون بذلك شريكاً في تطوير البنية التحتية في المنطقة، لكن بحث هذه المسألة- إن صحت التقارير الإعلامية- جرى على مستوى مستشاري الأمن القومي للبلدان الأربع، ما يعني أن الولايات المتحدة تنظر إلى هذا المشروع من زاوية أوسع من «الاستثمارات في البنية التحتية»، وربما ترى فيه خطوة من مشروع أوسع، يمكن أن يؤدي دوراً في إنشاء تكتلات بمواجهة الصين وروسيا، وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الإشارات إلى أن الكيان الصهيوني يمكن أن يُطرح كطرف في شبكة السكك الحديدية هذه. ولكن ذلك يبقى معلقاً بالرهان الأمريكي والصهيوني على النجاح في توقيع اتفاقية تطبيع للعلاقات مع السعودية. وهو ما سنعرّج عليه لاحقاً.
لكن ومع كل ذلك، يمكن النظر إلى حجم الاستثمارات الصينية في المنطقة- والإمكانات القادرة بكين على تقديمها- إدراك استحالة نجاح الولايات المتحدة المأزومة في مهمة كهذه. فحتى إذا أخذنا الهند التي تدخل في اشتباكات حدودية متقطعة مع الصين، تظل الأخيرة شريكها الاقتصادي الأول في الاستيراد، والرابع في التصدير حسب أرقام 2023. ولا يمكن للخليج العربي الذي تحتل بكين الوجهة الأولى لخامات الطاقة المستخرجة فيه أن ينخرط في المساعي الأمريكية لحصار الصين وتعقيد خطواتها في المنطقة.

السعودية أحد مفاتيح المنطقة

النقاش حول تحولات جارية في مواقف السعودية، وما يترتب على ذلك من تغيير في السياسة الخارجية وطبيعة الدور الذي تؤديه الرياض في المنطقة، يظهر كنقاش مهم، لأن الحديث يدور عن دولة ذات وزن كبير يستند إلى قدرات واحتياطات اقتصادية ذات أهمية كبيرة، وتحديداً في اللحظات الحالية. ففي البداية تقول الإحصاءات: إن الناتج الإجمالي السعودي تجاوز 1,108 مليار دولار في عام 2022 لتكون بذلك الوزن الأكبر بين الدول العربية، وتأتي الإمارات في المرتبة الثانية من حيث الناتج الإجمالي، لكن بفارق هائل عن السعودية، إذ حققت الإمارات 507 مليار دولار في نفس العام، وتبدو المنافسة على المقياس ذاته بعيدة عن مصر، التي بلغ ناتجها الإجمالي 475 مليار دولار، وتظهر الصورة فاقعة أكثر عند المقارنة بدول من وزن الأردن التي حقق في العام نفسه 48 مليار دولار أو السودان بـ 49 مليار دولار. المسألة لا تنحصر في وزن السعودية في المنطقة العربية فحسب، فهي تحتل المرتبة 18 على المستوى العالمي. لكن الجدير ذكره في هذا السياق، هو أن الأرقام جزء مهم لفهم الصورة والأوزان في المنطقة والعالم، لكن الوزن السعودي وإمكانيات تطويره تحتاج وضع بعض الملاحظات الإضافية. فأحد التحديات التي يواجهها الاقتصاد السعودي، كان كيفية تحويل هذا الفائض الكبير الناتج عن تصدير الخامات، إلى جزء من خطة استثمار استراتيجية، قادرة على نقل الاقتصاد إلى مستوى أكثر تعقيداً وتنوعاً. ويبدو بشكلٍ واضح أن هذه المصلحة الوطنية والحاجة الملحة اصطدمت مراراً بالسلوك الأمريكي والغربي عموماً. فضمن الشكل السائد للعلاقات الدولية، ونموذج تقسيم العمل المفروض غربياً، كان المطلوب من السعودية أن تبقى مصدراً للمواد الخام، ومستورداً للسلع المصنّعة، ما يعني أنها وقعت ضحية التبادل اللامتكافئ لعقود، وتم نهب كمية هائلة من الثروة، ولعبت مستويات المعيشة المرتفعة نسبياً في دول الخليج دوراً في نشوء سوق استهلاكي ضخم، أدى دوراً كبيراً في سحب الثروة الفعلية من الخليج إلى الغرب. هذا بالإضافة إلى أن السعودية كانت ثاني أكبر مستورد للأسلحة في العالم عام 2021، وكان معظم هذه الأسلحة يأتي من الولايات المتحدة والغرب. من جهة أخرى، تتداول الكثير من التقارير الاقتصادية بيانات تشير إلى أن دول الخليج لم تكن صاحبة القرار الفعلي بكيفية توظيف الفائض النقدي، الذي جرى وضعه في صناديق استثمار غربية، ليتحول إلى كتلة مالية ضخمة في المركز الرأسمالي.

تحول عميق يجري

التقلبات التي حصلت في أسواق الطاقة، وفي فترات مختلفة، كانت كفيلة لإثبات حجم الخطر في بقاء الاقتصاد السعودي بطبيعته الأحادية، وكان لانخفاض أسعار النفط في فترة وباء كورونا_-مثلاً- نتائج كارثية، وخصوصاً أنها امتداد لفترة طويلة من أسعار منخفضة للنفط، وهو ما أدى إلى تفاقم العجز ودفع دول الخليج إلى تأمين موارد عبر بيع الأصول والسحب من الاحتياطات. فبحسب مؤسسة النقد العربي السعودي انخفضت القيمة الصافية للأصول السعودية الخارجية من 497.33 مليار دولار في شهر شباط عام 2020، إلى حوالي 473.33 في شهر آذار من العام نفسه، بانخفاض بلغ 4.8% ووصل إلى 23 مليار دولار! ما يمكن أن يكون مثالاً واضحاً على المشكلة، وهو ما يفسر السعي السعودي لخفض الاعتماد على النفط، إذا استطاعت خفض مساهمة النشاطات النفطية في الناتج الإجمالي من 45.2% في عام 2011 إلى 38.8% في عام 2021.
دول الخليج والسعودية تحديداً، كانت تعلم أن البحث عن مصالحها الحقيقية سوف يأخذها بعيداً عن الغرب، باتجاه آفاق جديدة تسمح لها بتطور اقتصادي متوازن، ما يجعل التحولات الجارية في مواقف السعودية اليوم تطوراً طبيعياً لمرحلة طويلة من المراجعة، حتى وصلنا إلى لحظة كان فيها التوازن الدولي يسمح ببدء عملية الانفكاك هذه. لا تزال السعودية وغيرها من دول الخليج معلّقة بعُرًىَ مخفية مع الولايات المتحدة والاقتصاد الغربي، وهو ما يحتاج وقتاً كافياً لعلاجه، وخصوصاً أن الارتباطات هذه كانت دائماً في القطاعات الأكثر استراتيجية، مثل: الأمن والتسليح، هذا بالإضافة إلى أن العقوبات الأمريكية وطريقة تعاطيها مع الأصول الروسية مثلاً، تشكّل تهديداً لدول الخليج التي تحتفظ بأصول ضخمة في الولايات المتحدة الأمريكية، التي لن تتردد في استخدامها كأوراق ضغط وابتزاز. الصورة معقدة بلا شك، ولا يمكن الجزم بكيفية إنجاز التحول المطلوب، لكن ما يمكن تأكيده، أنه أصبح على الطاولة، وتنظر له السعودية بوصفه ضرورة وطنية لم يعد يمكن تأجيلها. إنجاز تحولٍ بهذا الحجم يمكن أن يدفع المملكة للعب دور كبير جداً في المنطقة، ويثبت أقدامها في ظل بناء فضاء جيوسياسي جديد فيها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1122