تفاصيل ودلالات إسقاط الطائرة الأمريكية فوق البحر الأسود
ملاذ سعد ملاذ سعد

تفاصيل ودلالات إسقاط الطائرة الأمريكية فوق البحر الأسود

لا يبدو أن الولايات المتحدة تمتلك أية نية للتعاون أو العمل الدبلوماسي لخفض التصعيد، وحل الأزمات مع الجانب الروسي بعد، بما فيها الملف الأوكراني، وعلى العكس من ذلك يرتفع منسوب استفزازاتها السياسية والعسكرية طرداً مع كل تقدّم روسي... وكان من آخر أنشطة واشنطن المتهورة اقتحام طائرة مسيرة تابعة لها لمنطقة حظر جوي روسية.

أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن مقاتلتين روسيتين من طراز Su-27 انطلقتا صباح يوم الثلاثاء 14 آذار لاعتراض طائرة مسيرة أمريكية من طراز MQ-9 فوق البحر الأسود، كانت تتجه نحو الحدود الروسية في شبه جزيرة القرم، وذكرت وسائل إعلام روسية: أن المقاتلتين الروسيتين قامتا بمناورة حادة مع الطائرة الأمريكية مما أدى إلى فقدان الأمريكيين للسيطرة عليها وسقطت، أما الرواية الأمريكية فتزعم أن الطرف الأمريكي هو من اتخذ قراراً بتدمير الطائرة، وفي رواية ثالثة يجري تداولها فيما يبدو أنها الأقرب للحقيقة دون تأكيد رسمي من أحد، ذكر قيام إحدى الطائرتين الروسيتين بفتح صمام تفريغ الوقود وغمرت الطائرة الأمريكية بالوقود مما أدى إلى انفجار محركها.

تصعيد خطير

خرقت الطائرة المسيّرة الأمريكية حدود منطقة الحظر الجوي فوق أجزاء من البحر الأسود، التي أعلنتها روسيا مع بداية عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وكانت قد أبلغت المجتمع الدولي بهذا الحظر وفقاً لكافة الاتفاقيات والبروتوكولات المعتمدة دولياً، إلا أن واشنطن تجاهلت عمداً هذا الأمر، وأرسلت طائرتها هناك دون تشغيل أجهزتها التعريفية بشكل استفزازي وتصعيدي خطير، وكان رد القوات الروسية مدروساً وحازماً.
صرّح وزير الخارجية الروسية حول هذا الأمر بالقول: إن «التجاهل الصارخ لهذه الحقيقة الموضوعية [منطقة الحظر الجوي]، يشير إلى أن الجانب الأمريكي يحاول باستمرار البحث عن نوع من الاستفزاز لتصعيد المواجهة» وأشار إلى أن «أية حوادث من شأنها أن تثير صداماً بين دولتين كبريين، وأكبر دولتين نوويتين في العالم، تحمل في طياتها مخاطر جدية دائماً. ولا يمكن لهم [الأمريكيين] ألا يدركوا ذلك».
إنها ليست المرة الأولى التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية بخطى تصعيدية خطيرة بهذا الشكل، كما أنها لن تكون الأخيرة، وذلك بصرف النظر عن كافة التوترات الدولية القائمة بفعل التخريب الأمريكي أساساً، وككل مرة، يحتوي الجانب الروسي هذا التصعيد بالتوازي مع الحفاظ على خطوطه الحمر فيما يتعلق بسيادته وأمنه القومي.

اتصالات ثنائية ومحاولات خفض تصعيد

بعد الحادث استدعت الخارجية الأمريكية السفير الروسي في واشنطن للاحتجاج على الأمر، كما أجرى وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ونظيره الأمريكي لويد أوستن اتصالاً هاتفياً، وجاء في بيان من الكرملين حول الاتصال أنه «تم الإشارة خلال المحادثة، إلى أن تحليق الطائرات الاستراتيجية الأمريكية بدون طيار قبالة شبه جزيرة القرم يحمل طبيعة استفزازية، مما يخلق ظروفاً مسبقة لتصعيد الوضع في منطقة البحر الأسود» وتابع «روسيا لا تريد مثل هذا التطور للأحداث، لكنها ستواصل الرد بشكل متناسب على كل الاستفزازات».
في المقابل، قال أوستن بلغة استفزازية خلال مؤتمر صحفي: «أجريت للتو محادثة هاتفية مع نظيري الروسي، الوزير شويغو. وكما قلت مراراً، من المهم أن تكون القوى العظمى نماذج للشفافية والتواصل. وستواصل الولايات المتحدة الطيران والعمل في أي مكان يسمح لها القانون بذلك... هذا الحادث الخطير جزء من نمط عام للتصرفات العدوانية والمحفوفة بالمخاطر وغير الآمنة من قبل الطيارين الروس في المجال الجوي الدولي» متجاهلاً تماماً، أن الخطوة الأمريكية جاءت بمثابة تحدٍ لخارطة العمليات الحربية الروسية، وتعتبر الطائرة الأمريكية في مهمة قتالية ضد روسيا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الدعم الأمريكي المباشر لأوكرانيا في هذا الصراع.
وأكد السفير الروسي لدى واشنطن أناتالوي انطونوف، أن الاتصالات بين روسيا والولايات المتحدة مستمرة لتفادي وقوع الحوادث العرضية، وصرح «نحن لا نبحث عن مواجهة مع قوة نووية ونواصل الحفاظ على الاتصالات، بما في ذلك عبر وزارة الدفاع لمنع الصدامات غير المقصودة. أود أن يكون لدى الساسة الأمريكيين نفس الموقف تجاه روسيا [...] لقد بذلت روسيا كل ما في وسعها لتجنب وقوع مثل هذه الحوادث، وأبلغت المجتمع الدولي مسبقاً بحدود منطقة الحظر الجوي التي أعلنتها».
وأكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا خلال مؤتمر صحفي لها «إن روسيا لا تسعى للمواجهة مع الولايات المتحدة بعد حادثة الطائرة المسيرة».

تصريحات أمريكية متضاربة

كان من المضحك جداً تصريح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس حول حادثة سقوط الطائرة بالقول: إن روسيا ربما لم تتعمد إسقاط الطائرة الأمريكية، وأن «التفسير الأكثر منطقية في الوقت الحالي هو أن هذه الإجراءات كانت على الأرجح غير مقصودة، وربما كانت نتيجة للافتقار إلى الاحترافية لدى أحد الطيارين الروس» مشيراً إلى أن «ما يهم هو ما حدث، حيث أجبرتنا الطائرة الروسية على إسقاط المسيّرة».
من الواضح أن هذا التصريح موجه بالدرجة الأولى إلى الداخل الأمريكي لحفظ ماء الوجه، بالزعم أولاً: أن إسقاط الطائرة كان غير مقصود. وثانياً: أن الأمريكيين هم من «أُجبروا» على إسقاط المسيرة.
ومن المضحك كذلك، أنه وبنفس اليوم أصدرت واشنطن تصريحين متضاربين، الأول: تصريح منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي جون كيربي، بعدم وجود محادثات بين الطرفين الأمريكي والروسي منذ نشر فيديو اسقاط الطائرة، قائلاً: «لم تكن هناك محادثات كنت على علم بها.. وبصراحة لن أتفاجأ إذا لم تكن هناك أية محادثات».
والثاني: صادر عن البيت الأبيض يؤكد فيه أن الولايات المتحدة تحافظ على قنوات اتصال مفتوحة مع روسيا، حيث قالت المتحدثة باسمه كارين جان بيير خلال مؤتمر صحفي: «من الواضح أننا لا نريد نزاعاً مسلحاً مع روسيا. ونحافظ على قنوات الاتصال المباشرة لغرض خفض مخاطر التصعيد».

حطام الطائرة

تحاول واشنطن حالياً المناورة حول انتشال حطام طائرتها المسيرة فوق البحر الأسود، لكن من الملفت لغتها حول الأمر، فهناك تقارير إعلامية تفيد أن الجانب الروسي قد بدأ بالفعل بعملية البحث عن حطام الطائرة، بينما تكتفي واشنطن بتقليل أهمية هذا الأمر استخباراتياً، بما تحتويه الطائرة من معلومات وتقارير وممن تجمع ولمن ترسل وعبر أية تردد والخ، وتحاول تغطية الأمر بخوفها أن تتعرف روسيا على تكنولوجيا هذه الطائرات، الذي لا يقل أهمية عن أية معلومات أخرى يمكن الحصول عليها من الطائرة، وخصوصاً إذا ما تمت مشاركة المعلومات الهندسية حول الطائرة المتطورة مع خصوم آخرين للولايات المتحدة.
لا شك أن الخطوة الأمريكية ترقى لعمل عدائي جديد موجّه ضد روسيا، فاعتبار الولايات المتحدة أن المجال الجوي في منطقة الحادث هو مجال دولي، يعني رفض الاعتراف بالشكل الذي تعبر روسيا به عن مصالحها وهو ما استدعى رداً حاسماً من قبل الأخيرة، رغم إصرارها من خلال تصريحات مسؤوليها أنها لا تسعى إلى تحويل الصراع الحالي إلى مواجهة بين قوتين نوويتين، في الوقت الذي ترى بعض القوى في واشنطن أن استفزازات من هذا النوع يمكن أن تدفع الولايات المتحدة لانخراط أكبر في مواجهة مع روسيا، وهو ما لا يلقى اجماعاً في واشنطن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1114