أزمة الكونغرس … وبداية عام جديد مليء بالانقسامات

أزمة الكونغرس … وبداية عام جديد مليء بالانقسامات

استقبلت الولايات المتحدة الأمريكية العام الجديد بطور جديد من الأزمة، ظهر هذه المرة بانتخابات مجلس النواب، حيث فشل المجلس لـ 14 مرة- على التوالي في غضون 4 أيام- في انتخاب رئيسٍ له، قبل أن يتمكن زعيم الجمهوريين في المجلس- كيفن ماكارثي- بحصد الأصوات اللازمة لنجاحه في الجولة الـ15.

لم يحدث مثل هذا الأمر في الولايات المتحدة منذ 100 عام بالتمام، حيث فشل مجلس النواب في سنة 1923 بانتخاب رئيس له على مدى 4 أيام و9 جولات تصويت. لكن إذا ما كان الفشل السابق يعزى إلى خلافات جزئية وشكلية نوعاً ما، فإن الفشل الحالي يعزى إلى خلافات وانقسامات سياسية عميقة لدى النخبة الأمريكية الحاكمة والمجتمع.
الصراع الجاري داخل الولايات المتحدة، ما بين تياري «الحرب» و«الانكفاء» يتمظهر داخل مختلف مكونات الحكم والإدارة والمكونات السياسية، بما فيها ما بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حتى بداخل كل واحد منهما على حدٍ سواء، حيث يوجد ممثلون للتيارين في كل مكان.
ويأتي الصراع الأخير في مجلس النواب ضمن السياق نفسه ما بين الجمهوريين، وكان عنوانه كيفن ماكارثي المعروف بتأييده ودعمه لترامب سابقاً والآن، أي عملياً اصطفافه ضمن تيار الانكفاء، وتمثل الصراع حول أيّ من التيارين ينجح بإيصال ممثل عنه إلى رئاسة المجلس.

ترامب والـ «رينو»

منذ بدء أول جولة تصويت، وخلال الجولات الـ 14 التي تلتها، لم يتوانَ دونالد ترامب عن تأكيد دعمه لكيفن ماكارثي، وداعياً أعضاء حزبه الجمهوريين للتصويت له، وفي كل جولة كان هناك رقم يتراوح بين 15 إلى 20 من الجمهوريين الذين رفضوا التصويت له، وفي المقابل، كان مرشح الأقلية الديمقراطية حكيم جيفريز يحرز صوتاً واحداً أقل من ماكارثي، علماً أنه حتى ولو حقق أكثر منه فلم يكن ليحصد نسبة الأغلبية اللازمة لنجاحه رئيساً.
خلال فترة الصراع ضمن المجلس، خرج ترامب بعدة تصريحات منها قوله: «لا تحولوا نصراً عظيماً إلى هزيمة عملاقة ومحرجة» بإشارة منه إلى النجاح في الانتخابات النصفية السابقة، وقال: «إذا أراد الجمهوريون القتال، فعلينا محاربة ميتش ماكونيل وهيمنته» علماً أن ماكونيل جمهوري، وتابع «هناك الكثير من الاضطرابات غير الضرورية في الحزب الجمهوري» مرجعاً جزءاً منها إلى ماكونيل وزوجته وزيرة النقل السابقة إيلين تشاو ومن يحالفهما ضمن ما يصفه ترامب بالـ رينو– RINO، وهو مصطلح جديد أطلقه اختصاراً لـ (Republicans in name only – جمهوريون بالاسم فقط)، حيث يعارض ماكونيل ترامب وتياره، ويميل لصالح تيار الحرب الذي ورط الولايات المتحدة بالانخراط في مواجهات على جبهتين، وكان له دور كبير بفشل انتخابات مجلس النواب استناداً لتصريحات ترامب هذه.
في المقابل، لم يتوانَ بايدن عن التصيّد بالجمهوريين مما جرى، حيث قال بعد الجولة الثالثة: إن «هذه ليست مشكلتي... هذا عار علينا والعالم يراقب ما يحدث في الكونغرس».
من الناحية العملية، وصول أو عدم وصول ماكارثي إلى رئاسة مجلس النواب، لا يشكل أثراً على سير عمل مجلس الشيوخ أو البيت الأبيض في الوقت الحالي، فحتى إن تمكن الجمهوريون من السيطرة على مجلس النواب ورئاسته، وإن افترضنا اصطفافهم جميعاً ضمن تيار الانكفاء، فإن الإجراءات الوحيدة القادرين على فعلها من الناحية العملية هي رقابية، وفتح تحقيقات ومساءلات قانونية، ويمكن أن تعيق عمل التيار المقابل جزئياً، وهي أمور تجري بالفعل، إلا أنه صراع توسع ونفوذ سياسي، يمهد للانتخابات الرئاسية القادمة.
ومع ذلك، لا يتوانى الجمهوريون أو بشكل أدق، من يصطف مع تيار الانكفاء منهم، بصنع ضغوط على مجلس الشيوخ والبيت الأبيض من مختلف المنابر وبمختلف الأدوات، فمكاراثي نفسه كان قد دعا قبل نجاحه برئاسة المجلس إلى خفض ميزانية الدفاع بمقدار 75 مليار دولار، علماً أنه لم يتطرق بحديثه إلى الصراع في أوكرانيا.

المهم هو الفرز

ما يهم تيار الانكفاء بقيادة ترامب أكثر فيما يجري، هو عملية الفرز الجارية داخل الحزب الجمهوري بأعضائه فرداً فرداً وبالاسم، ومصطلح الـ «رينو» ذاك يعد مؤشراً هاماً في سياق هذه العملية، ويعكسها، حيث يحاول ترامب التخلص من معارضي الانكفاء بداخله وصولاً إلى تأمين «حزب ترامب».
وتؤثر هذه العملية بطبيعة الحال على الجهة المقابلة، الحزب الديمقراطي، وإن بشكل أقل ضجيجاً من الناحية الإعلامية، أي أن عملية الفرز تجري داخل الحزبين على حدٍ سواء، وصولاً، ربما، إلى تمظهر طرفي الانقسام الأمريكي بينهما بشكل أوضح.
وكمؤشرات أخرى على تطور الصراع داخل الولايات المتحدة، تطفو التخوفات من وقوع أحداث جديدة تشبه ما جرى في الكابيتول مع الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 2021، وقد حذر رئيس شرطة الكابيتول- توم مانجر في وقت سابق- من «خطر» حدوث مثل هذا الأمر بسبب «حالة الاستقطاب» التي تعيشها البلاد الآن، مشيراً إلى أن شرطة الكابيتول أجرت العديد من التحسينات الأمنية الهامة، وأقامت شراكات قوية مع العديد من وكالات إنفاذ القانون.
استقطاب وانقسام يهدد وحدة الولايات جدياً
من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، تعيش الولايات المتحدة وشعبها أسوأ فترات حياتهم، وتدل التطورات على أن المستقبل لن يكن أفضل بأي شكل كان بالنسبة لهم، وإثر ذلك يزداد منسوب الاحتقان عموماً، والآن خاصة، بعد مرور العاصفة الثلجية وفشل المنظومة الكهربائية، ومنظومة التدفئة، في الكثير من المناطق الأمريكية فضلاً عن ارتفاع أسعارهما بشكل كبير، مما ترك آثاراً اجتماعية ستظهر تعبيرات عنها في وقت لاحق.
حالة الاستقطاب التي يعيشها المجتمع الأمريكي، والانقسام السياسي، وعمليات الفرز بين الطرفين في مختلف مكونات ومؤسسات الحكم، تهدد جدياً وحدة البلاد مستقبلاً، في بلاد تُعد الحروب الأهلية واحدة من أساساتها التاريخية التي بُنيت عليها ولم تتجاوزها حتى الآن، وبمجتمع مدجج بالسلاح من كبيره إلى صغيره، ما يعني ارتفاعاً في معدلات العنف، التي كان آخرها الخبر الذي جرى تداوله حول قيام طفل عمره 6 سنوات بإطلاق النار على معلمته في المدرسة! ومستذكرين مظاهر المسيرات المسلحة في الولايات المتحدة تزامناً مع الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتظاهرات «حياة السود مهمة»، ويزيد هذا الاحتمال فشل الإدارة الأمريكية في التنفيس عن أزماتها بالحروب خارجاً كما جرت العادة.
وبذلك، فإن أزمة مجلس النواب التي تطلبت 15 جولة لحلها، لا تعد حدثاً عرضياً أو دلالة على «الديمقراطية» في الولايات المتحدة، بل تعكس اضطراباً وصراعاً وانقساماً سياسياً عميقاً، وتعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة مفصلاً هاماً في هذا السياق.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1104