خطاب بايدن… حول الانقسام وريعه السياسي

خطاب بايدن… حول الانقسام وريعه السياسي

بعد انتهاء الفرقة السيمفونية من عزف بعض المقطوعات الموسيقية الوطنية، وقف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جوزيف بايدن خلف زجاجٍ ثخين مضادٍ للرصاص، أمام قاعة الاستقبال في مدينة فيلادلفيا، ووقف على جانبيه ضباط من قوات البحرية الأمريكية، لتجسّد هذه العناصر مجتمعةً لوحة داكنة الألوان لمرحلة مفصلية جديدة في تاريخ أمريكا.

ربما يرى البعض شيئاً من المبالغة في التوصيف السابق، لكن إدارة جو بايدن والسياسيين البارزين في الحزب الديموقراطي الأمريكي يدركون تماماً ما يمكن أن تستحضره رمزية هذا المشهد من الذاكرة الجمعية للأمريكيين. فقاعة الاستقبال التاريخية التي وقف بايدن أمامها في 1 أيلول الجاري كانت المكان الذي اجتمع فيه مؤسسو الولايات المتحدة في الشهر ذاته من العام 1787. ونجح المجتمعون وقتها في صياغة جوهر الدستور الأمريكي الذي نعرفه اليوم. والذي حسم الجدل حول شكل الحكم وطبيعة النظام السياسي الأمريكي. تساعد هذه المعلومات التاريخية في تفسير المغزى السياسي لكل التفاصيل اللوجستية التي صنعت هذا الحدث، لكن كلمات بايدن نفسها أنهت كلّ التكهنات، فالرئيس وقف اليوم في الخطوة التمهيدية الأساسية لانتخابات الكونغرس النصفية، معلناً عزمه على قسم الشعب الأمريكي، وتوجيه ضربة كبرى للوحدة الوطنية المتداعية أصلاً.

«إعلان الحرب»

خصص الرئيس الأمريكي معظم كلمته لشن هجوم شرس على الرئيس السابق دونالد ترامب وكل مناصريه، وكال بايدن الاتهامات المباشرة لترامب والأمريكيين الذين وصفهم بالـ «ميغا» في إشارة لمناصري حملة ترامب الانتخابية (لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً). قال بايدن في بداية حديثه: إن «الديمقراطية تتعرض لهجوم» وهذا ما دفعه للقدوم إلى هذا المكان بالتحديد. «المكان الذي بدأ منه كلّ شيء» حسب تعبيره. وأعلن الرئيس أن «دونالد ترامب والميغا يمثلون تطرفاً يهدد أسس الجمهورية». وأضاف موضحاً: إن حديثه لا يشمل كل الجمهوريين، فالأغلبية منهم لا تتبنى ما وصفه بالـ «الأيديولوجية المتطرفة»، لكنّه أكد أنّ ترامب وأنصاره يهيمنون اليوم على الحزب الجمهوري ويوجهانه.
أعتبر بايدن أن ترامب وأنصاره، لا يحترمون الدستور الأمريكي والديموقراطية، واستند في هجومه هذا على رفضهم لنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأحداث الشغب في مبنى الكابيتول، وأشار أيضاً إلى هجومهم المستمر على «قوات إنفاذ القانون». وبعد إسهابه في الحديث عن أعمال ترامب ومناصريه «المناهضة للديموقراطية»، أكّد عزمه على المواجهة، حيث قال: «لسنا عاجزين في مواجهة هذه التهديدات. نحن لسنا متفرجين في هذا الهجوم المستمر على الديمقراطية».

بايدن حامي الدستور!

بايدن الذي اشتهر بارتكاب الهفوات، عمل بجد مع فريقه هذه المرة، فتحضير الخطاب استغرق أسابيع حسب مسؤولين في الإدارة الأمريكية، وكانت كلماته مدروسة ومحسوبة تماماً، وهو ما جعل منه حدثاً مفصلياً، فالرئيس الأمريكي عنون خطابه «المعركة المستمرة في سبيل روح الأمة» ووقف أمام الأمريكيين معلناً أن ترامب وأنصاره أصبحوا «يهددون أسس الجمهورية» لتكتمل بذلك عناصر الانقسام. فأنصار ترامب الذي هاجمهم وأعلن ضرورة مواجهتهم، وصلوا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى أكثر من 75 مليون شخص! ونجح ترامب في انتخابات 2020 من حصد 232 من أصوات النخبة السياسية في المجمع الانتخابي المؤلف من 538 ناخب! أي إن الرئيس السابق ورغم خسارته للانتخابات فإنه مثّل بوضوح تطلعات جزء وازن من المجتمع الأمريكي. ومع أن الصورة اختلفت منذ تلك الانتخابات، إلا أن شعبية ترامب وما يمثله تجاوزت حسب مراكز الاستطلاع شعبية الرئيس الحالي في عدة مناسبات. فوز بايدن في تلك الانتخابات يفرض عليه التصرف كرئيس لكل الأمريكيين لا نصفهم أو 81 مليون الذين أشار إليهم في خطابه! وعندما يتخذ الرئيس قراراً بهذا الحجم، فهو يمضي إذاً باتجاه مواجهة سياسية كبرى، يمكن أن تتحول ضمن الظرف الأمريكي الحالي إلى مواجهة أهلية ومسلحة بين عشرات الملايين من الأمريكيين.

الرّيع السياسي للخطاب التقسيمي

نشرت هيئة تحرير صحيفة «واشنطن بوست» مقالاً حول المسألة، انتقدت فيه سلوك الرئيس، واعتبرت على الرغم من موافقتها على أن «الديمقراطية في خطر» إلا أن بايدن كان ينبغي له اللجوء لعلاج هذه المسألة إلى «الوطنية لا التحزب» وأوضحت الصحيفة: أن الرئيس انحاز لحزبه «الديمقراطي» أكثر من انحيازه للديمقراطية! وإن «تحقير الناس وتوبيخهم» لا يعتبر الشكل الأمثل لإقناعهم. «واشنطن بوست» عالجت المسألة بدرجة كبيرة من السذاجة! فهي تنتقد الطريق الذي اختاره الرئيس للدفاع عن الديمقراطية ومعالجة الضرر الناتج عن سلوك ترامب وأنصاره، دون أن تضع بعين الاعتبار أن الرئيس ومن معه يسعون إلى أمرٍ آخر تماماً، ومن زاوية رؤيتهم، لا شيء يمكن أن يحقق ما يستطيع «تحقير الناس وتوبيخهم» تحقيقه، بل إن بعض مراكز الاستطلاع استنتجت أن التجاوب مع الرئيس يزداد كلما كان خطابه هجومياً أكثر!
وصل الانقسام السياسي داخل الولايات المتحدة على ما يبدو إلى درجة لم يعد بالإمكان احتواؤها ضمن الأطر السياسية التقليدية. فمن أعدّ هذا الخطاب يدرك أن البلاد في لحظة مفصلية، ولذلك يمكن تحقيق ريع سياسي أكبر بتعزيز الانقسام لا العكس. فعندما يقول بايدن: إن «أمريكا على مفترق طرق» ويصف اللحظة الحالية بأنها «تحدد شكل كلُّ ما سيأتي بعدها» ويقدّم في هذه اللحظة بالذات هذا الخطاب التقسيمي، يعني أن نخب الولايات المتحدة بدأت تبحث عن مصالحها في ظرف سياسي جديد لا تكون الولايات «متّحدة» بالضرورة! وبدأت هذه التوجهات تشق طريقها إلى مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام إلى تلك الدرجة التي تضع فيها مجلة شهيرة مثل «إيكونوميست» عنوان غلافها الأخير «الولايات غير المتحدة الأمريكية» وتعالج في ملف العدد الرئيسي كيف تهتز مقومات الوحدة بين هذه الولايات.

1086-23

يوم أعلن مؤسسو الولايات المتحدة الأمريكية من «قاعة الاستقلال» في أواخر القرن الثامن عشر إنجاز دستور البلاد، كانوا يعبرون في تلك اللحظة عن مصلحة تاريخية مشتركة، ورأوا في وحدة الولايات شكلاً مناسباً لهذه المصلحة. أما اليوم يعلن الرئيس الأمريكي ومن «حديقة الاستقلال التاريخية الوطنية» أنهم يدخلون مرحلة جديدة في تاريخهم، ستحمل معها أطراً سياسيةً جديدةً تلائم مصالح النخب الحاكمة، ولن تنتهي هذه المرحلة إلا بتغيير كل ملامح أمريكا، من شكّل الحكم والنظام السياسي فيها وصولاً إلى حدودها. 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1086