أزمة الحبوب سياسية أيضاً..
ملاذ سعد ملاذ سعد

أزمة الحبوب سياسية أيضاً..

برزت الملامح الأولى عالمياً لمشكلة تجارة مختلف أنواع الحبوب، من بينها: القمح، منذ ما قبل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولتكون الأخيرة مسرّعة لها فقط، حالها كحال أزمات الطاقة والتضخم وغيرها.

انطلقت التحذيرات الأولى من حصول خلل في تجارة الحبوب بعدما فتحت الصين أبوابها، وسوقها الكبير، أمام استيراد القمح من كافة المناطق الروسية، وذلك خلال اتفاق بين الدولتين في أثناء زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى العاصمة الصينية بكين لحضور دورة الألعاب الأولمبية في حينه.

كورونا سابقاً.. أوكرانيا حالياً

علاوةً على ذلك، إن التحذيرات التي انطلقت حول الأمر، وإن كان عنوانها هو تجارة الحبوب والقمح، فإن الموضوع الأساسي خلفها كان التغيرات في خطوط التجارة وسلاسل التوريد عالمياً بشتى المجالات، والتي كانت أزمة أشباه الموصلات عنواناً آخر من عناوينها العديدة.
تتمثل ضرورة الإضاءة على هذه الحقائق في التأسيس لبناء تحليل موضوعي للتطورات الجارية؛ حيث تتخمنا وسائل الإعلام المختلفة ومحللوها، بجعل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا شمّاعة لكل ما يجري: أسعار الطاقة، والتضخم، وتجارة الحبوب، وعموم الأزمات الاقتصادية والتجارية، حالها بذلك كحال أزمة وباء كورونا سابقاً، والتي أشارت قاسيون في حينه أيضاً بأن جُلّ ما فعلته كورونا هو تسريع الأزمة، وليس إنتاجها وتوليدها... وأكثر من ذلك، فإن هذا التسارع نفسه يتعلق بكيفية إدارة هذه البلدان لمصالحها ومصالح الرساميل بها، بمقابل بلدان أخرى نجحت في التعامل معها.
فلا نتحدث هنا حول الأرقام الاقتصادية والتجارية، فتقييمات الربح والخسارة، والنجاح والفشل، تختلف باختلاف العالمَين المتصارعَين حالياً، بين من ينحصر فهمه للربح بوصفه معادلاً لزيادة المال الخاص، ومن يفهمه ضمن أبعاد إضافية على رأسها التصدي لمحاولات تفتيته جيوسياسياً... فضمن الصورة الأولى كمثال، تغرقنا الصحف الاقتصادية الغربية بالأرقام الأمريكية، ونسب نموها وغيرها، وصولاً إلى «أغنى رجال وشركات العالم» ، بيد أن هذه التحليلات ترتبط بوجهة نظر تفترض أن طبقة رأس المال هي البلاد نفسها، وتتشدق بالانتصارات، وعليه فإن كل رقمٍ يزيد هو ربح بالنسبة للبلاد، متناسين بذلك مستويات الفقر والبطالة والأزمات التي تعتمل ضمنها، وحتى هذه الأرقام باتت غارقة خلال السنوات والأشهر الأخيرة، بما فيها مؤشرات البورصات ومؤشرات الشركات العملاقة، وفي مقدمتها شركات التكنولوجيا... بمقابل وجهة نظر أخرى تضع الشعوب ومصير الدول نفسها ضمن معادلات التقييم والحساب تلك.

المشكلة سياسية

بالمثل من أزمة الوباء الفيروسي سابقاً- بوصفها أزمة صحية فقط أو تعبيراً عن أزمة سياسية أيضاً- تأتي أزمات التجارة اليوم بمختلف عناوينها في السياق نفسه... فبينما يراها البعض تعبيراً عن وضع اقتصادي، وكنتيجة جامدة وميكانيكية لحربٍ هنا أو صراع هناك، تتسارع وتكبر نتيجةً لأزمة سياسية جارية.
فبالمعنى الاقتصادي عموماً، يُعد كل من الغاز والنفط والحبوب الروسية أفضل نوعاً وأرخص سعراً بالنسبة للأوروبيين- على سبيل المثال لا الحصر- وعليه فإن المصلحة الاقتصادية تفترض أن يجري استيراد هذه المواد على حساب الأغلى والأسوأ، إلا أن القرار السياسي من هذه الدول والولايات المتحدة خلفها تمنع هذا الأمر، والعقوبات ليست سوى الشكل الأكثر وضوحاً وصرامةً لهذه القرارات.
وأكثر من ذلك، فإن هذه القرارات والعقوبات لا تؤثر على السوق الأوروبية وحدها، وإنما على جميع الدول التي قد ترغب بالمضي بتعاملاتها التجارية وفقاً للمصلحة الاقتصادية السليمة والعادلة، وعليه، تبرز الآن تحذيرات من حدوث نقص غذائي سببه الحبوب، وكل ما ينتج عنها في مختلف مناطق العالم، مع ما يحمله ذلك من مخاطر معيشية وجوع على الدول الإفريقية مثلاً بوصفها الأضعف، مرجعين ذلك بتحليلٍ جامد إلى الوضع في أوكرانيا، ليتساءل الناس بشكل بديهي وصادق في كل مكان: منذ متى كانت أوكرانيا– على أهميتها– المصدر الوحيد، أو العامود لتجارة الحبوب؟ علماً أننا لا نتناسى وزنها الاقتصادي والتجاري في هذا الجانب، إلا أنه وببساطة لا يتساوى مطلقاً مع حجم الأزمة الجارية.

والحل سياسي..

بالاستناد إلى ما سبق، فإن حل هذه الأزمة، وغيرها، سياسي بالضرورة، فروسيا والصين وإيران وغيرهم لم يعلنوا عدم رغبتهم بتصدير منتوجاتهم إلى أية دولة، إلا أنهم «معاقبون»، وفي حين يوهم الغربيون شعوبهم بأن هذه العقوبات ستؤدي إلى الإضرار باقتصادات هذه الدول «الشريرة» وترغمهم على الانصياع لـ «الديمقراطية الأمريكية»، نجد الروبل يتصاعد، والنمو الصيني يمضي بمساره، والاقتصاد الإيراني متماسك، بمقابل تضخم، وارتفاع معدلات بطالة، ونقص مواد غذائية، وتحذيرات من ركود مقبل في أوروبا والولايات المتحدة.. وفي حين يتوهم الغربيون أن هذه الإجراءات السياسية ستؤدي إلى عزلة هذه الدول، نرى هذه الدول تعقد اتفاقات تجارية فيما بينها، مغيّرة رسمة خطوط التجارة وسلاسل التوريد عالميا، وبسياسات عادلة، بمقابل عزلة أوروبية وأمريكية ناشئة أيضاً.
وبين هذين النموذجين والعالمين السياسيين، لن يطول الوقت قبل أن تتخذ دول الأطراف نفسها مواقف وإجراءات سياسية مغايرة لما يجري الآن، ومخالفة لتوجيهات «المعلم الأكبر الأمريكي».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1072