واشنطن تفرّط في أتباعها والسعودية تلوح بخياراتها

واشنطن تفرّط في أتباعها والسعودية تلوح بخياراتها

كثيراً ما يستخدم تشبيه «تساقط أحجار الدومينو» في ميادين السياسة كونه يعبّر عن درجة التداخل في ملفات تبدو منفصلة ظاهرياً للمراقب البسيط. شكّلت العلاقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة مفصلاً في تاريخ المنطقة، لا بل في تاريخ الولايات المتحدة نفسها، وإن كان «الطلاق» هو مصير هذه العلاقة فذلك يعني تساقطاً متسارع لأحجار الدومينو في منطقتنا

لعبت السعودية- ولجملة من الأسباب- دوراً تاريخياً بارزاً في الإقليم، وطرأ على دورها هذا تطور ملحوظ ونوعي منذ سبعينات القرن الماضي، شكّل نقطة فارقة. وتحديداً بعد توسيع «التفاهمات» السعودية- الأمريكية، وخصوصاً تلك التي ضمنت تسعير النفط بالدولار الأمريكي حصراً، مما ساهم بشكلٍ كبير في فرضه على العالم والتجارة الدولية، والذي أدى بدوره إلى نهب ثروات العالم بشكلٍ مستمر وممنهج، ونقلها إلى نخب المركز الإمبريالي في الولايات المتحدة. في المقابل، حصلت السعودية لقاء تنازلاتها الكثيرة على شهادة أمريكية لحسن السلوك مكّنتها من تثبيت أقدامها في الخليج والمنطقة العربية إلى الدرجة التي بات يُنظر إليها بوصفها ثاني أبرز الوكلاء الأمريكان في المنطقة، من بعد الكيان الصهيوني.
يشكّل كلُّ ما ذُكر عقبةً حقيقية لدى البعض في تصديق إمكانية حدوث تحولات كبرى في العلاقة بين البلدين، نظراً إلى أن شكّلها بدا ثابتاً نسبياً لأكثر من خمسين عاماً مضت. ولكن الوقائع المتسارعة تثبت أن التحولات جارية، وتزداد وضوحاً، وستكون عند إتمامها نقطة فاصلة في اتجاه مغاير لواقع المنطقة في العقود الماضية.

بطاريات الباتريوت التي تحمي الرياض

بعد الهجوم الذي تعرضت له شركة أرامكو السعودية، عصب إنتاج النفط في المملكة، أظهرت الولايات المتحدة- مضطرةً- تمسكّها والتزامها بالدفاع عن الرياض، ونشرت منظومات صاروخية للدفاع الجوي في قاعدة الأمير سلطان الجوية القريبة من العاصمة السعودية. وشملت المنظومة بطاريات صواريخ باتريوت بالإضافة إلى نظام THAAD «ثاد» لاعتراض الصواريخ البالستية القصيرة والمتوسطة. ليجري الإعلان في 11 من شهر أيلول الجاري عن سحب هذه المنظومات الدفاعية من القاعدة، ونشرت وكالة الأسوشيتد بريس مقالاً مدعماً بالصور الفضائية لتثبت خلّو القاعدة من الصواريخ الأمريكية بعد تراجع تدريجي في النشاط العسكري الأمريكي داخل القاعدة. لم يمض وقت طويل حتى جرى تأكيد الخبر رسمياً. ليشكّل مادة دسمة للتحليلات المنصبة على مراقبة تطور العلاقة المضطربة بين البلدين. وعلى الرغم من محاولات الولايات المتحدة للتأكيد على أن ما يجري يعدّ حدثاً روتينياً لا يعكس تفريطها أو تخليها عن حلفائها، لا تقتنع السعودية بالحجج والمسوغات التي تقدمها واشنطن وتفكر جدياً بخيارات بديلة.

شكّل الالتزام الذي تطلبه السعودية

في حديث للـ CNBC الأمريكية، قال الأمير تركي الفيصل الرئيس السابق للمخابرات العامة في السعودية وسفير الرياض السابق إلى واشنطن، بأن على الولايات المتحدة أن تعيد تأكيد التزاماتها لحلفائها في الشرق الأوسط، وخصوصاً «بعد انسحابها الفوضوي من أفغانستان وتداعيات الأزمة القائمة في كابول» الفيصل وفي حديث لوكالات الإعلام الأمريكية أكد بشكلٍ واضح بأن التزام الولايات المتحدة مع حلفائها يجب ترجمته بشكل واضح وملموس، وحدد الملامح الملموسة لهذا الالتزام بالنسبة للسعودية بـ «عدم سحب صواريخ الباتريوت في الوقت الذي تكون فيه المملكة ضحية لهجمات صاروخية وهجمات الطائرات المسيرة لا من القوات الحوثية في اليمن فحسب، بل من إيران أيضاً» لكن أولويات الولايات المتحدة فرضت عليها عدم الالتزام بهذه التعهدات وسحبت الصواريخ التي تعتمد عليها الرياض في سد النقص الذي تعانيه أنظمتها الدفاعية، مما يدفعها وحسب تصريحات الفيصل لـ «بحث خيارات أخرى». فالموقف السعودي كان واضحاً وجرى تكثيفه بشكلٍ مفهوم بأن شكّل الالتزام الذي تطلبه السعودية ودول الخليج هو تأمين الحماية العسكرية الأمريكية المباشرة، والرد الأمريكي كان واضحاً ومفهوماً أيضاً بأن «هذه الحماية لم تعد ممكنة ولم تعد ضمن إمكانياتنا»، وما سيجري الآن هو انسحاب «منظم» للتواجد الأمريكي كما جرت الأمور في أفغانستان!

عصر الخيارات الأخرى

لا ترى المملكة الانسحاب والتراجع الأمريكي طارئاً وغير متوقع، بل على العكس من ذلك، ففي مقال الأسوشيتد بريس- المشار إليه في البداية- تأكيد على أن المملكة السعودية ترى أن آخر ثلاثة رؤساء للولايات المتحدة الأمريكية «باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن» اتخذوا قرارات تدل على نزعة للتخلي عن السعودية، فحكام السعودية يدركون كغيرهم بأنه وعلى الرغم من رحيل ترامب إلا أن شعار «أمريكا أولاً» لا يزال يفعل فعله في مراكز القرار الأمريكية، وعليه كان لا بد من دراسة خيارات المملكة البديلة.
البحث عن إمكانية تطبيع العلاقات مع إيران عبر المفاوضات والوسائل الدبلوماسية لم يكن توجهاً سعودياً اعتباطياً، بل كان استجابة ضرورية للتحولات التي تشهدها السياسة الخارجية الأمريكية، فإدراك هذه الحقيقة يعتبر كافياً لإدراك أن هذا التوجه لن يكون طارئاً، وسيتسم بالجدية نظراً لأنه مفروض بحكم الضرورة الاستراتيجية التي لا ترى سواه مخرجاً وحيداً للسعودية بعد إزالة الغطاء الأمريكي عنها، والبحث عن مصادر السلاح الأخرى التي بدأت بوادره في الاتفاقية التي جرى التوقيع عليها مؤخراً مع روسيا يندرج في السياق ذاته، والذي سيكون عنوان المرحلة القادمة في السعودية التي أدركت ضرورة البحث عن خيارات أخرى على الرغم أنها لم تتحرك باتجاهها بطاقتها القصوى بعد.
في العودة إلى أحجار الدومينو، يعتبر التحول الجاري في السياسة الخارجية السعودية أمراً طبيعياً، لكن السؤال الأبرز يبقى حول أثر هذا التحول بعد أن ينجز بشكله النهائي: ما هي أحجار الدومينو الأخرى التي ستتلو السعودية؟ وما هو أثر هذا الانفكاك على الولايات المتحدة نفسها؟ وخصوصاً عند مراجعة الدور الذي لعبته السعودية بالوكالة عن الولايات المتحدة وما هي آثاره على المنطقة.

الكيان الصهيوني والقلق المستمر

في مقال نشره الموقع الصهيوني «تايم أوف إسرائيل» تحدث فيه بشكل واضح، بأن بعض المسؤولين داخل الكيان يبدون قلقاً شديداً من السلوك الأمريكي، ويقدمون نصائح لفريق إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بضرورة «تخفيف الضغوط عن السعودية ومصر» لأن ذلك من شأنه أن يدفع البلدان العربيان بعيداً عن الولايات المتحدة، أي باتجاه إيران وروسيا والصين بالضرورة، مما سيشّكل ضربة قاسية للكيان الذي يعول على تقارب أكبر مع السعودية بهدف تثبيت مواقعه القلقة. تدرك واشنطن بالطبع أن الضغط الذي يتحدث عنه الصهاينة القلقون ستكون له آثارٌ كارثية على التحالفات القائمة حالياً، لكن الأزمة العاصفة التي تعيشها تفرض عليها خيارات صعبة لا مخارج سهلة منها!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1036
آخر تعديل على الإثنين, 20 أيلول/سبتمبر 2021 23:06