«السيل الشمالي-2» هزيمة أمريكية أخرى
ملاذ سعد ملاذ سعد

«السيل الشمالي-2» هزيمة أمريكية أخرى

أُعلن يوم الثلاثاء 20 تموز عن توصل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الأمريكي جو بايدن إلى اتفاق حول خط الغاز المسال من روسيا إلى ألمانيا «السيل الشمالي-2» بتجميد العقوبات الأمريكية المفروضة عليه، والموافقة على استكماله مقابل بضعة شروط أمريكية تتعلق بأمن أوكرانيا والدول الأوروبية، وسط انتقادات كبيرة لواشنطن من قِبل حلفائها، وكأنه بالأمر الغريب وسط عالم تتراجع به الولايات المتحدة كل يوم وتضعف.

لمحة سريعة

طُرحت فكرة توسيع خط الغاز المسال من روسيا إلى ألمانيا في عام 2011 من قبل شركة غازبروم الروسية، بمقدار 55 مليار متر مكعب، وبمشروع جرى تقدير قيمته الأولية بـ 11,3 مليار دولار، وفي عام 2015 اتفقت كل من غازبروم الروسية ورويال دوتش شيل الألمانية بالإضافة لـ 4شركات أخرى على بناء خط الغاز الثاني «السيل الشمالي-2»، لتبدأ الانتقادات والتخوفات السياسية الأوروبية والأمريكية من هذا المشروع بالظهور تباعاً، وبشكل متصاعد خلال المراحل التالية، في عام 2017 تم توقيع العقود المالية، وفي 2018 أعطت ألمانيا تصريحاً لبدء بناء الأنبوب، بعد هذه الخطوة بدأت التهديدات الأمريكية بفرض العقوبات تتصاعد وصولاً إلى توقيع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2019 ورقة دفاع تتضمن عقوبات على المشروع، وجرى توسيعها في وقتٍ لاحق من عام 2020، أدت بمجموعها إلى وضع عراقيل على البناء مع تخوف الشركات من أن تتضرر جراءها، مما أدى إلى توقف عمل بعضاً منها، مثل: شركة Allseas السويسرية خوفاً من العقوبات، بالإضافة إلى ارتفاع بتكلفة المشروع، وصولاً إلى الاتفاق الألماني- الأمريكي الأخير، والذي جاء أساساً بعد اكتمال بناء الأنبوب بنسبة 98% وفقاً لشركة Nord Stream AG، وأنه من المزمع إتمام بنائه بشكل كامل في شهر آب.

المشكلات والتخوفات

بالحسابات الاقتصادية لألمانيا ودول الجوار حولها، يُعد الغاز الروسي أفضل نوعاً وأرخص سعراً من الغاز المستورد أمريكياً، ورغم أهمية هذا الجانب بالطبع، إلا أن الأمر يتعدى الموضوع التجاري وحده نحو السياسي والجيوسياسي بطبيعة الحال، فاستيراد الطاقة لأكبر دولة اقتصادية في الاتحاد الأوروبي من خصم حلف الشمال الأطلسي الأساسي، روسيا، يعد خرقاً استراتيجياً، فهو انزياحٌ ألماني- ومن بعده أوروبي- نحو توسيع العلاقات مع روسيا والشرق عموماً، ويأتي هذا الانزياح وسط الأزمة الرأسمالية عالمياً، وتراجع الولايات المتحدة الأمريكية وضعف قدرتها على «ضبط» حلفائها وسلوكهم، قال ترامب لميركل في عام 2019 صراحةً، بأن الولايات المتحدة تقوم بحماية ألمانيا وتتكلف عليها مليارات الدولارات، بينما تقوم ألمانيا عبر هذا المشروع بإعطاء مليارات ومليارات أخرى لروسيا.
من جهة أخرى، وُجدت تخوفات من أن «السيل الشمالي-2» سيكون بديلاً عن اتفاقية توريد الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا وفقاً لاتفاقية سارية بين شركتي غازبروم الروسية ونفط وغاز أوكرانيا والذي سينتهي عقدها في عام 2024، والإضرار بمصالحها، ليجري استثمار هذا الأمر بتحريض أوكرانيا، وما تحتويه من نزاعٍ داخلي وصراع مع روسيا حول القرم ودونباس ولوغانسك للضغط على موسكو.... إلا أن التخوفات الأمريكية بالعمق منها– خلف كلامها الإعلامي بدفاعها عن المصالح الاقتصادية الأوكرانية– هو بالتحديد تمديد الاتفاق السابق في عام 2024 بالتوازي مع بدء الضخ في السيل الشمالي-2، ليكون أحد أهداف مساعي تحريض الولايات المتحدة الأمريكية لأوكرانيا بوجه روسيا هو ضرب العلاقات تماماً بما يؤدي إلى عدم التمديد.

اتفاق ميركل - بايدن

قال المتحدّث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، صراحةً بانعدام جدوى العقوبات الأمريكية المفروضة على السيل الشمالي-2، وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن: إن إيقاف بناء الأنبوب أمرٌ مستحيل، حيث اكتمل بنسبة 99%، وهي تصريحات أقل ما يقال عنها بأنها «إعلان هزيمة» حول هذا الملف.
تمت التسوية الألمانية- الأمريكية بتوقيف العقوبات المفروضة على المشروع، والموافقة الأمريكية عليه، باشتراط إعادة فرضها من قبل أمريكا وألمانيا نفسها على حدٍ سواء في حال مارست روسيا ضغطاً سياسيا وعدائياً على أوروبا وأوكرانيا من خلاله، إضافة إلى تعهد ميركل بحثّ روسيا على تمديد اتفاقية الغاز مع أوكرانيا بما يضمن مصالحها، ودعمها بالانتقال إلى الطاقة الخضراء.
رداً على هذه الاتهامات، أكد الجانب الروسي عبر المتحدث باسم رئاسته، ديمتري بيسكوف، بأن مزاعم استخدام روسيا لموارد الطاقة كأداة للضغط على كييف أمرٌ غير صحيح ومرفوض، وخلال اتصالٍ هاتفي بين بوتين وميركل لم ينفِ الرئيس الروسي إمكانية تمديد اتفاقية الغاز مع أوكرانيا، إلا أنه لم يؤكدها بذات الوقت، واصفاً الأمر بأنه «ممكن» فقط.

ردود الفعل

شكل الرضوخ الأمريكي صفعةً لكل حلفائه، وقد تصدر دونالد ترامب حملة التصعيد على إدارة بايدن داخل الولايات المتحدة، معتبراً أن إدارته استطاعت عرقلة المشروع والضغط على ألمانيا بسببه، بينما قام بايدن بتمرير «أكبر خط أنابيب في العالم يمتد من روسيا إلى ألمانيا» بظرف أسبوعين على حد تعبيره، في حين أن إدارة بايدن قامت بتوقيف خط الأنابيب الأمريكي Keystone XL.
وفي أوكرانيا اشتدت المعارضة على الرئيس زيلينسكي وتحديداً من قبل الحزب الأوكراني «القاعدة المعارضة من أجل الحياة» مطالبين إياه بالاستقالة، وجاء في بيانٍ صدر عنه «يجب على زيلينسكي وحكومته الاستقالة بعد الإعلان عن الاتفاقية الألمانية الأمريكية حول «السيل الشمالي-2» بسبب فقدانهم لأصول الطاقة الأوكرانية الرئيسية، وكذلك الخسائر الاقتصادية الهائلة والطويلة الأجل، وتدمير قدرة الترانزيت لبلادنا. ونطالب بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة».
وفي بولندا ذات الأمر، حيث اعتبر نائب البرلمان والمعارض ياتسيك بروتاس بأن هذه الاتفاقية تعني فشل الدبلوماسية البولندية، قائلاً «إن دوائرنا الدبلوماسية لم تعرف ما الذي يحدث حول هذه القضية المهمة جدا بالنسبة لبولندا. ولا نسمع عن أية أعمال من جانب نائب رئيس الوزراء (ياروسلاف كاتشينسكي) المسؤول عن أمن بلادنا، بما في ذلك أمن الطاقة».
لابد من الإشارة إلى أن هذه الموافقة الأمريكية جاءت بعد القمة التي جمعت بوتين وبايدن في الشهر الماضي، وهي إحدى مفرزاته... بطبيعة الحال لن ينتهي الصراع حول السيل الشمالي-2 عند هذا الحد، فلا تزال هناك ضغوط ومساومات حول موعد بدء الضخ فيه، بالإضافة إلى الكمّية التي سيجري ضخها، إلا أن ما جرى يُعد خطوة كبيرة، وهو انتصار روسي ألماني على أمريكا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1028