تطبيع مصر وتركيا وبوصلة واشنطن المكسورة
بعد سنين من الأزمة السياسية والدبلوماسية بين البلدين، وما تخللها من خلافات وصراعات عميقة وحادّة وصلت إلى حدود نشوب حربٍ فيما بينهما، عادت كل من تركيا ومصر إلى طاولة الحوار لتطبيع العلاقات وحلحلة التناقضات دبلوماسياً.
بدأت الخلافات بين أنقرة والقاهرة بعنوان وذريعة «خلع» الرئيس المصري السابق محمد المرسي في عام 2013، وبينما يُرجع العديد من المحللين أسباب القطيعة بوصفها تحالفاً ضيقاً لـ «الإخوان المسلمين» بين أردوغان ومرسي، يتناسى هؤلاء أن الأمر أوسع وأشمل من هذا العنوان وهذا التيّار-بصرف النظر عن تقييمه- فالخلافات والتناقضات التركية- المصرية كانت أقدم من ذلك بكثير، وتزايدت مع حملة «الربيع العربي» التي شملت العديد من البلدان ومن بينها مصر نفسها، وكان لتركيا دوراً محرضاً بها جميعاً في تلك الفترة التي كانت أنقرة لا تزال ترجح في موازين القوى لكفّة الغرب وطموحاته وخدمةً له، علاوةً على خلافات الحدود البحرية وتنقيب الغاز وخطوط التجارة القديمة أيضاً.
بداية الأزمة
منذ 2013 وما تلاها استعرت أزمات المنطقة أكثر، وكان على رأسها الحرب الليبية، البلد الحدودي الأكبر مع مصر غرباً، وانقسم طرفا الصراع فيهما إقليمياً بين قوتين محسوبتين لمصر (حفتر) وتركيا (السراج) أما دولياً فقد كان اللاعب الخفي واحداً خلفهم جميعاً: واشنطن. كان الصراع بين مصر وتركيا يدور لمحاولة فرض مكاسب ونقاطٍ أكبر ضمن الملف الليبي، بما سيعطي أيّ «رابحٍ» بينهما الوزن الأكبر لإمكانية فرض شروطهم ومصالحهم.
خلال هذه الفترة تبدّلت أحوال «اللاعب الخفي» ذاك، بتأزمه وهزائمه، والتي فرضت بدورها مزيداً من العبث والتصعيد في كل الملفات الساخنة، ووصلت ذروة الخلافات المصرية التركية في أواسط العام الماضي مع نذور حربٍ كادت أن تنطلق بين الدولتين في الأراضي الليبية، إلا أنّ المعادلة كانت بسيطةُ جداً: لن يكون هناك أي رابحٍ في هذا السيناريو، ولا تحتمل أنقرة أو القاهرة رفاهية خسارة أية معركة في ظل أزمتيّ كل منهما في الداخل أيضاً، على المستويين الاقتصادي والسياسي، وكان واضحاً أن المستفيد الوحيد خلف هذا الأمر واشنطن، علاوةً على أن فراغ الأخيرة كانت تملؤه روسيا بنشاطها السياسي والدبلوماسي مع كلا البلدين.
ومع المزيد من التسارع في موازين القوى دولياً هبطت الولايات المتحدة عدة درجات، وتغيّرت أولوياتها نحو الشرق أكثر تجاه الصين، فضلاً عن أزمتها العميقة داخلياً والتي بان جزء منها أثناء انتقال الإدارة الأمريكية من ترامب إلى بايدن وما جرى خلال هذه الفترات، بمقابل بروز الدور الروسي في الملف الليبي بالتعاون مع تركيا ومصر، والذي أدى في نهاية المطاف إلى إنعاش طريق الحل السياسي وبات واقعاً.
بداية الحلحلة
أدى هذا الأمر، بشكل متبادل على المستويين الإقليمي والداخلي الليبي، بالتوازي مع الوساطة الروسية دولياً من خلف الستار، إلى ذوبان الجليد بين أنقرة والقاهرة، لتبدأ كلتهما بإطلاق إشارات دبلوماسية إيجابية اتجاه بعضهما البعض.
لتنطلق يوم الأربعاء 5 أيار في مقر وزارة الخارجية المصرية مشاورات مصرية- تركية عقدت لأول مرة منذ عام 2013، جمعت نائب وزير الخارجية المصري حمدي سند لوزا، ونظيره التركي سادات أونال، بحث خلالها الطرفان عدة ملفات بغية حلحلة الخلافات وبدء «تطبيع العلاقات»، وقد شملت المحادثات أزمات ليبيا وسورية والأوضاع الأمنية في منطقة شرق البحر المتوسط، ليصرّح وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو بعد يومٍ واحد من ختام المشاورات أن هناك «إمكانية لعقد لقاء على مستوى وزراء الخارجية» مما يؤكد إيجابية الاجتماع، إضافة إلى التأكيد في بيانه الختامي بـ «الاتفاق على الخطوات المقبلة».
من المبكر ربما الحديث عن تطبيعٍ كاملٍ بعد، فلا تزال موضوعة تبادل السفراء قيد البحث، ومرهونةً بمجريات المباحثات والتطورات السياسية، شريطة ألّا يفسح المجال أمام واشنطن للدخول على الخط، إلا أن الطريق معبد ويشكل هذا الحدث الخطوات العملية الأولى به.
لا حلول بالقوة!
تؤكد هذه التجربة المصرية- التركية مجدداً بعدم وجود إمكانية حل أية مسألة بالقوة، أي :بمنطق «الحل والحسم العسكري» أو مرادفاته، فموازين القوى الدولية الجديدة لا تسمح بذلك، فضلاً عن عناوينها العريضة بالحوار والحلول السياسية والتعددية والتكافؤ وغيرها.
ومن غير مبالغة، فإن المستفيد الأول، إن لم يكن الوحيد اليوم، من منطق التصعيد العسكري والسياسي وما يخلفه من خسائر متبادلة على جميع الأطراف هو الولايات المتحدة المتأزمة، التي لا يقدم لها الهدوء والاستقرار أيّة فائدة تذكر بأي ملفٍ كان، ولا بدّ من التذكير أن من أهم عوامل التقارب المصري التركي الجاري الآن هو الاستدارة التركية نفسها نحو روسيا منذ عدة أعوام بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في أنقرة، إضافةً إلى السلوك الروسي المتصاعد وأثره.
تُدرك الدول والأنظمة بها تدريجياً حقيقتين مرّتين، الأولى: أنّ واشنطن لم تعد «سنداً» كما يتوهمون، والثانية: أنه وبغياب واشنطن لا يعني ذلك «التفرّد» بمصالحهم على الطريقة الأمريكية نفسها، ليمضوا سبل الحوار والحلول السياسية في نهاية المطاف، بعد إضاعة الكثير من الوقت والدماء التي كانت ستحقن بقليلٍ من التعقّل ورؤية تطور الأمور وحركتها.
وبالمثل، لا تزال الأزمات دائرة في العديد من الملفات الأخرى: اليمن، أوكرانيا، بيلاروسيا، سورية، القرن الإفريقي، التشاد، وأمريكا اللاتينية، إضافةً إلى خلافات ثنائية مثل أرمينيا- أذربيجان التي جرى ويجري حلها، الهند-الصين التي تخفضها بكين بعد كل تصعيدٍ من نيو دلهي، إيران- السعودية، وغيرها الكثير، التي لن تنتهي أيّ منها في نهاية المطاف إلا بالحوار والحلول السياسية، بعد عزل التخريب الأمريكي وتقليص قدرته على العبث بأيٍّ منها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1018