تصريحات بايدن والرد الروسي المخيف!
صدمت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن تلك التي اتهم فيها نظيره الروسي بأنه «قاتل» الرأي العام ووسائل الإعلام، واعتبرت الأخيرة تصريحات بايدن تصعيداً غير مسبوق من رئيسٍ أمريكي اتجاه روسيا، لم تشهده العلاقات بين البلدين حتى فترة الحرب الباردة. لكن الرد الروسي بدا أقل من المتوقع، مما يدفعنا إلى بحث العلاقات الروسية الأمريكية بشكلٍ أعمق لفهم ما يجري فعلياً.
في البداية، لابد لنا من الوقوف قليلاً أمام الخروج الفظ للرئيس الأمريكي عن الأعراف الدبلوماسية، فبايدن كان يفترض أن يطوي صفحة «فظاظة» خلفه دونالد ترامب، ويُعيد للدبلوماسية الأمريكية «بريقها»، لكن الوقائع تثبت أن الفظاظة الدبلوماسية والاستخفاف بتقاليد اللباقة العامة ستظل حاضرةً في السياسية الأمريكية، وستضاف هذه الصفات إلى القائمة الطويلة التي رافقت السياسية الأمريكية، المسؤولة عن قتل الملايين في تاريخها الأسود الطويل، ذلك التاريخ المليء بالتدخل بشؤون الدول، وقصف المدنيين والدّعم العلني والسري للانقلابات القذرة، وجرائم الاغتيال السياسي. بل لن نستغرب إذا خرج الرئيس الأمريكي في المستقبل القريب ليكيل الشتائم على الهواء مباشرة وهو يمضغ طعامه، ليعبر بذلك عن الحضيض الذي وصلت له الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن، ولكيلا ننجر للتحليلات المتسّرعة، يجب علينا أن نطرح سؤالاً: ما الذي تتوقعه الإدارة الأمريكية من هذه الفظاظة مع روسيا؟ وهل يمثل السلوك هذا جميع الإدارة السياسية الأمريكية؟ قد يكون الرد الروسي مفتاحاً لفهم ما يجري!
كيف ردت روسيا؟
في 17 آذار الجاري، وجّه الصحفي والسياسي الأمريكي جورج ستيفانوبولس سؤالاً على الهواء للرئيس الأمريكي. وسأل ستيفانوبولس ببساطة: إن كان بايدن يرى في بوتين «قاتلاً» ورد الرئيس الأمريكي بالإيجاب فوراً، وتابع القول: بأن بوتين سيدفع ثمن تدخله في الانتخابات الرئاسية. أما ردّ الرئيس الروسي فجاء على شكل حديث طويل ممزوجٍ بذكرياتٍ من الطفولة ذي مضمونٍ لافت جداً، إلى جانب استدعاء السفير الروسي في واشنطن لإجراء مشاورات، تمنى بوتين في تصريحاته بدايةً دوام الصحة للرئيس الأمريكي، وتابع قائلاً: «عندما نقيّم الناس الآخرين، أو عندما نقيّم الدول أو الشعوب الأخرى، فنحن دائماً كمن ينظر في المرآة ويرى نفسه فيها، لأننا دائماً نحمّل الشخص الآخر ماهية أنفسنا في واقع الأمر.. وأذكر أنه في أيام الطفولة كنا نقول عندما نتجادل مع بعضنا في أفنية المنازل: من ينعت الآخر بشيءٍ ما، فإن ذلك من صفاته هو.. وهذا ليس مصادفة أو مجرد مزحة أطفال، فهناك معنى نفسي مهم جداً فيه، إذ إننا دائماً نرى في الشخص الآخر صفاتنا الخاصة، ونعتقد أنه مثلنا، وانطلاقاً من هذا، نقوم بتقييم أفعاله ونعطيه تقييماً عاماً». لكن رد الرئيس الروسي لم يقتصر على هذا بالطبع، بل وجّه دعوة لنظيره الأمريكي لإجراء محادثات مباشرة بدلاً من اغتياب بعضهم بعضاً، وأضاف، أنه يمكن أن يناقش البلدان مشاكلهما على الهواء مباشرة، وأعلن بوتين مباشرةً استعداده للقيام بهذه «المصارحة» واعتبر: أن فيها مصلحة مشتركة لشعوب البلدين وأن مضمونها سيكون «لافتاً بالنسبة لهم للغاية»، وقال: إنه سيوعز لوزارة الخارجية باتخاذ الإجراءات الملائمة لإتمام هذا الأمر، بل حدد موعداً لذلك شرط أن يكون مناسباً للرئيس الأمريكي!
لا يشكل ما سبق حدثاً جديداً، ففي مواقف عديدة كان قرار روسيا السياسي الرد عبر امتصاص، أو تجنب ضربة الخصم بدلاً من ردها، فللتذكير، كان رد روسيا على طرد إدارة أوباما لدبلوماسييها في أواخر 2016 دعوة أطفال الدبلوماسيين الأمريكيين المعتمدين في روسيا لحضور احتفالات رأس السنة والميلاد في الكرملين! وتصريحات بوتين اليوم تشابه تصريحاته السابقة حد التطابق. ففي 30 كانون الأول 2016 رفض بوتين الرد بالمثل على الخطوات الأمريكية غير الودية، واعتبر أن الرد بالمثل «يتعارض بشكل واضح مع المصالح الأصيلة للشعبين الروسي والأمريكي، ويضر بمجمل العلاقات الدولية، نظراً للمسؤولية الخاصة عن الحفاظ على الأمن العالمي، والتي تتحملها روسيا والولايات المتحدة»
ما الذي يريده الخصم؟
يحاول بعض المحللين والسياسيين رد تصرفات بايدن إلى «كبر سنه» أو «قدراته العقلية»، أو كما يصفها البعض الآخر «صراحته وتعبيراته الصادقة». ما يهمنا، أن الرئيس الأمريكي قال ما قاله، ورفض التراجع عنه لاحقاً، وثبتت الناطقة الرسمية باسم البيت الأبيض جين بساكي ذلك عندما قالت: إن الرئيس تعهد «بألّا يكبح نفسه حول روسيا». لذلك يمكننا القول بأن بايدن تحدث بلسان شريحة من السياسيين الأمريكيين، ولم تكن تصريحاته خطوة خرقاء دون هدف! بل هناك فريق موجود داخل الإدارات الأمريكية المتعاقبة يحاول أن يدفع بالعلاقات الروسية الأمريكية نحو الهاوية، لأن في ذلك ضمانة وحيدة لنسف هذه العلاقات وقطع الطريق على فريق آخر داخل الإدارات الأمريكية يرى فرصة لبناء علاقات مع روسيا، يترافق مع التراجع الأمريكي المنظم من المسرح العالمي الذي شغلته الولايات المتحدة. فإن كان من الواضح أن الموقف من روسيا يشكّل نقطة استقطاب داخل النخب الأمريكية، فإن تعقيد هذه العلاقات عبر هذا النمط من السلوك السياسي والدبلوماسي يفرض واقعاً لن يكون بالإمكان تجاهله. وهذا بالضبط ما تدركه روسيا، لذلك ترى أن مصلحتها تقضي بتأريض هذه الضربات من جهة، وإعلان حسن النوايا من جهة أخرى، والدعوة المفتوحة للحوار، وإيجاد أرضية للتفاهم، مما يعني بالمحصلة: إعادة توجيه الضربة لأصحابها.
ما الذي تنتظره روسيا؟
لا يعني كل ما سبق أن روسيا «ترأف بحال» الولايات المتحدة، بل العكس تماماً، فروسيا عندما تقابل التصعيد الأمريكي بهذا الهدوء إنما تُعمّق الانقسام الداخلي الأمريكي، وتسّرع التفاعلات الجارية، وتمنع خصومها من الحصول على ما يريدون، فعندما تسعى إحدى الفرق الأمريكية المنقسمة جرّ روسيا للصراع، إنما تحاول فعلياً زجها في الصراع الأمريكي الداخلي بشكلٍ مباشر، وتصبح بذلك تهمة «التعاطف مع روسيا» تهمة سهلة الإثبات، مما يدعم مواقفها في المعركة الداخلية.
تضطر روسيا إذاً للتعامل مع نمطين من السلوك الأمريكي، الأول: الذي يحاول أن يجعل السياسيين الروس، بل وبوتين شخصياً موظفين مأجورين يخدمون مصالح فئات داخل الولايات المتحدة، ويعملون ضد مصالح بلدهم والعالم، وهو ما تنجح روسيا حتى اللحظة بتجنبه. أما النمط الثاني من السلوك الأمريكي الذي تضطر موسكو للتعامل معه: هو ذلك السلوك العدائي الذي يسعى إلى تعقيد الوضع الدولي أمام روسيا وحلفائها، وهنا تحديداً تتصرف روسيا بشكلٍ مغاير تماماً، فتوجه الضربات السريعة الخاطفة، ويبدو هذا واضحاً بعدد كبير من القضايا، مثل: استعادة القرم، والاتفاق الثلاثي لوقف النزاع في قره باغ، والتدخل العسكري الروسي في سورية. يُفهم من هذه القراءة- إن أثبتَ الواقع صحتها- درجة عالية من المرونة في التعامل مع القضايا المختلفة الموضوعة على الطاولة، ويزيد من فرص الإستراتيجية الروسية في التعامل مع المخاطر الناجمة عن سقوط الإمبراطورية الأمريكية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1010