إذلال واشنطن في العراق ومهمّة الاستقلال الثانية
بات العراق مسرحاً لإذلال الولايات المتحدة الأمريكية وقواتها بكل ما للكلمة من معنى، حيث تُستهدف مواقعها وقواتها في كل مكان، وصدر قرار برلماني بخروج القوات الأمريكية، والتي سلمت أكثر من 6 قواعد عسكرية للعراقيين، كما اتخذت الإدارة الأمريكية قراراً لتخفّيض عدد هذه القوات، وتتعرض السفارة بطاقمها لـ استهدافات صاروخية، وكل ذلك يجري أمام عجز واشنطن عن مواجهة أو ردّ هذه المجريات والتطورات.
بعد تعرض المنطقة الخضراء في بغداد- التي تحتوي السفارة الأمريكية- إلى استهدافات صاروخية شبه يومية منذ بداية العام الجاري، وبعد عجز واشنطن وبغداد عن منع هذه العمليات، هدد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو كلاً من الرئيس العراقي برهم صالح، ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بقرار أمريكي مبدئي يقضي بإغلاق السفارة الأمريكية في العراق بعد عدة أشهر إن لم تتوقف الاستهدافات العسكرية عليها، ونقل جزءٍ من طاقهما إلى قنصليتهم في أربيل.
ردود الفعل
قد أدى هذا الأمر إلى ردود فعل متباينة في الداخل العراقي بين مؤيدٍ ورافض لهذا الإغلاق، ويمكن القول اختصاراً: إن جميع القوى السياسية العراقية والمنخرطة في الحكومة بشكل أساس، أعلنت عن قلقها من هذا القرار، بذرائع وحجج مختلفة، من بينها: أن استهداف البعثات الدبلوماسية، أياً تكن، بما فيها الأمريكية، هو أمرٌ مرفوض، ويسيء للعراق وسمعته. أو أنّ إغلاق السفارة الأمريكية بهذا الوقت سيؤدي إلى توترات في العراق و«ويفرغ الساحة لإيران».
أما بالنسبة للمقاومة الشعبية فقد كان ردها واضحاً، بالمعنى العملي المباشر: بأن استهدفت صاروخياً مناطق قريبة من مقار تابعة للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، والمطار، بعد يومين، في أربيل نفسها، بمساحات جغرافية فارغة دون تحقيق أية أضرار مادية أو بشرية، برسالة بسيطة وواضحة مفادها: أن أربيل، والقواعد العسكرية الأمريكية، والقنصلية فيها، هي ضمن المدى العسكري والصاروخي لنا.
إن هذه التهديدات الأمريكية، وما جرى بعدها باستهداف أربيل- التي اعتبرتها آمنة من إمكانية وصول المقاومة إليها- فضلاً عن كل ما سبق خلال الأشهر السابقة، تشكل بمجموعها فصل ذلٍ عسكري وسياسيّ لواشنطن في بغداد، التي وكما تردد في الإعلام مؤخراً: تعتبر سفارتها أكبر سفارة في العالم، بمساحة 170كم، وآلاف الموظفين، وأنظمة مراقبة وحماية شديدة، بالإضافة إلى تنسيقها الأمني مع الحكومة العراقية وجيشها، غير قادرين جميعهم على ردع صواريخ «الكاتيوشا» أو مُطلقيها، في جميع المناطق العراقية.
ذرائع لمصالح خاصة
حول الذرائع السابقة عن القلق من القرار الأمريكي، فإن الاختباء خلف الأعراف السياسية بوجوب حماية البعثات والطواقم الدبلوماسية في أية دولة، وتركيبها على الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتلّ العراق منذ 2003، أمرٌ لم يقبله الشارع العراقي، حيث أنّ واشنطن أساساً تضرب السيادة العراقية بعرض الحائط، وتنهبه، وتتحكم به، عبر سفارتها نفسها التي اعتبرها البعض «معقلاً للجواسيس الأمريكان»، بل إنّ إغلاق السفارة، وحتى القنصلية، وطرد طواقمها الدبلوماسية من العراق في هذا الوقت، هو ضرورة لتخفيض وزن الولايات المتحدة في البلاد وتأريض تدخلاتها وإملاءاتها حتى يتمكن العراقيون من استعادة سيادتهم وصياغة مستقبلهم.
أما الذريعة الثانية: فإن التخوّف من توترٍ في العراق، يفترض من قائله بأنه لا توتر يجري الآن؟ بل وبالتحديد، فإن تأخر خروج القوات الأمريكية مع أو بلا إغلاق سفارتهم وسحب الدبلوماسيين، هو ما يزيد تدريجياً من منسوب التوتر في الداخل العراقي، فالشعب الذي قال كلمته وعبّر عن مواقفه ورغباته في انتفاضة تشرين، والمتمثلة بتغيير النظام العراقي، وتغيير الدستور العراقي، نحو نموذجٍ آخر قائم على أسس وطنية، لا طائفية أو محاصصة، ويستعيد السيادة العراقية، ويحقق عدالة اجتماعية وإلخ، إن تأخير وتسويف هذه المطالب، وتغييبها، بل والمضي عكسها تماماً، هو ما يزيد من حدة الاحتقان، ويؤجج من التناقضات سواء بين مصالح الشعب العراقي والقوى السياسية الموجودة الآن، أو بين القوى السياسية التي وبمساعدة الأمريكي نفسه، تدفع باتجاه الصراعات الثانوية من سني- شيعي أو عربي- كردي كتعبيرٍ عن أزمة المنظومة الطائفية من جهة، ومحاولات قسم الشارع العراقي من جهة أخرى.
والثالثة: بأن الانسحاب الأمريكي الآن سيؤدي إلى «تفرّد إيران» في العراق... حيث إن القائل بهذا التخوّف، يضع نوعاً من المساواة بين الغايات الإيرانية والأمريكية في المنطقة، ويصطف ضمنها على أساس مصالحه الخاصة، مُتناسياً عدة جوانب أساسية: إيران دولة حدودية، والولايات المتحدة تقع في قارة أخرى تماماً. والعلاقة بين السبب والنتيجة أو الفعل ورد الفعل بين الوجود الأمريكي في العراق واستخدامه كنقطة انطلاق على طول الخط لاستهداف إيران نفسها. ومن جهة ثالثة النظر إلى إيران من عدسات الميزان الدولي القديم المصوغ على الهيئة الأمريكية بسياسات التوسّع والنهب والإملاء والتبعية، غير متكيّفٍ بالتالي مع الفضاءات الجديدة التي تتشكل على أسس التكامل والتكافؤ... فحتى وإن افترضنا وجود مبررات ما لهذا الحذر بناءً على تجربة العراق السابقة بالصدام الإيراني- الأمريكي على أرضه سواء على المستوى السياسي أم العسكري، فإن التطورات الجارية والاتجاهات العامة المستقبلية على المستوى الدولي نفسه لا تؤكدها، بل تناقضها وتناقض المصلحة العراقية، لتصبح هذه الذرائع، في هذا الوقت، أدوات تعمل على تأخير حلّ الملف العراقي، ونيله استقلاله عن هيمنة «كافة القوى الخارجية أياً تكن» واستعادة لسيادته.
نحو الاستقلال الثاني
تخلل الأسبوع الماضي في العراق مناسبتين، الأولى: الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة تشرين في 1 تشرين الأول 2019، والثانية: الذكرى الـ88 لاستقلال العراق عن الانتداب البريطاني في 3 تشرين الأول سنة 1932، ليكون لهذين التاريخين بقرب موعدهما من بعضهم البعض، رمزية مجازية خاصة نؤكدها هنا: أن انتفاضة الشعب العراقي وما عبّر عنه بإرادته قبل عام، تحمل في داخلها بذور استكمال مهمّة الاستقلال نفسه، بشكل حقيقيّ وتام، عن كل أشكال الهيمنة والفرض، وتقرير مصيره بنفسه فعلاً، الأمر الذي تدعمه وتسانده تطورات الوضع السياسي عالمياً، نحو تحقيقه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 986