عتاب منصور عتاب منصور

هل ما يجري يخدم الأمن القومي الأمريكي حقاً؟

فتح فيروس كورونا المستجد الباب واسعاً على الفرق الكبير بين الإنفاق العسكري في العالم والإنفاق الضروري على القطاع الصحي، وإن كانت الحكومات سارعت لتقديم «شهادات حسن سلوك» مُحاولةً إقناع شعوبها بأنها تنفق الكم الكافي على الصحة، كانت النتائج لا تقبل الشك والنقاش، ووصل القطاع الصحي في كثير من الدول إلى درجة الانفجار ولم يعد قادراً على استيعاب الأعداد المتزايدة من المصابين ليتركوا لملاقاة مصائرهم.

ورأينا في الآونة الأخيرة الكثير من المقاربات التي حاولت تقديم صورة للقطاع الصحي العالمي، إذا ما جرى ضخ بعض مما ينفق على الأسلحة في الأجزاء المخصصة للصحة من الميزانيات العامة، وكانت بعض هذه المقاربات صادمة فعلاً، فقد تحدث أحد التقارير أن سعر طائرة F-15 الأمريكية قادر على تأمين أكثر من 1,6 مليون فحص للمصابين بفيروس كورونا، وبأن سعر الطائرة الذي يصل إلى 105 مليون دولار يستطيع تأمين 549 مليون كمامة! ويضيف التقرير إلى جانب العديد من المقاربات المشابهة، أن «50% من الإنفاق الدفاعي لدول الشرق الأوسط يستطيع تأمين مليوني سرير موزعة على 2000 مشفى ميداني».

عجائب الدنيا

إن كانت مشكلة نقص الإنفاق على الصحة مشكلة عامة تعاني منها أغلبية دول العالم، إلا أن الولايات المتحدة تشكل حالة فريدة، فهي تعد اليوم المتضرر الأكبر من كوفيد-19، فقد سجلت الأرقام الرسمية أكثر من 2,9 مليون إصابة مؤكدة، وبوفيات تجاوزت 132 ألفاً ما يعني نسبة وفيات تقارب الـ 9% وهي النسبة الأعلى عالمياً، وإذا ما ابتعدنا عن المقارنات بالدول الأخرى، مثل: ألمانيا وروسيا والصين والتي تؤكد كارثية الوضع في الولايات المتحدة- وعلى الرغم من أن الوضع بات يشكل خطراً حقيقياً على الأمن القومي الأمريكي- إلا أن هذا لم يغير من واقع الأمر، فالولايات المتحدة التي تنفق أكثر من 730 مليار دولار على ميزانية الدفاع «أكثر من ميزانية الدفاع لصين والهند وروسيا والسعودية وفرنسا وألمانيا وبريطانيا واليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل مجتمعين» لم تستطع زيادة موازنة مركز السيطرة على الأوبئة ومنعها إلى الحد المطلوب، والتي تعد ميزانيته أصغر بتسعين مرة من سعر طائرة F-35 الأمريكية!

في سبيل الأمن القومي؟!

تبرر النخب الأمريكية هذا الإنفاق العسكري الهائل بأنه إنفاق ضروري ولا بد منه للحفاظ على الأمن القومي الأمريكي، وهذا ما يدفعنا للنظر بعمق أكبر إلى هذا «الأمن القومي»، فإذا كان تفشي الوباء بهذا الشكل وما سيتركه من آثار هائلة على الاقتصاد وعلى تركيبة المجتمع لا يعد خطراً على الأمن القومي، فإن النظر إلى الإنفاق العسكري الأمريكي يوضح أن هذا الإنفاق بات خطراً على أمن البلاد أيضاً. فالمجمع الصناعي العسكري الأمريكي يقوم بعمليات سرقة موصوفة تجري عبر شبكة من علاقات المصلحة التي تديرها لجان الكونغرس المعنية بأمور الإنفاق، يضاف إلى ذلك بأن شركات تصنيع الأسلحة تستفيد اليوم من خطة الإنقاذ التي أقرتها الحكومة الأمريكية لتعويض الشركات المتضررة من آثار فيروس كورنا دون أن تلتزم بمعايير معينة، فقد قامت شركة جنرال إلكتريك بتسريح 25% من عمالها على الرغم من أنها تلقت 20 مليون دولار كمساعدة لتطوير «تقنيات الصناعة الدفاعية» والذي لا تساهم أصلا بالحرب الفعلية على كوفيد-19، وهذا حصل أيضاً مع شركة شركة آيروسيستم التي تلقت 80 مليون دولار لتوسيع صناعاتها المحلية، ومع ذلك قامت بتسريح 900 عامل من عمالها.
يرى البعض، أن التمييز الإيجابي الذي تتلقاه شركات تصنيع الأسلحة يصب في مصلحة البلاد، فهذه الشركات هي المصنّع الأساس للأسلحة الأمريكية «المتفوقة»، لكن الواقع يقول غير ذلك تماماً! فالولايات المتحدة التي تنفق أكثر من كل الدول التي ذكرنها مجتمعة لا تحجز موقعاً متقدماً لهذه الدرجة بالمعنى العسكري الفعلي، فالعديد من الأسلحة الأمريكية تعد باهظة الثمن بشكل هائل إذا ما جرت مقارنتها مع نظيراتها المصنعة في البلدان الأخرى، فسعر المقاتلة الروسية سو-35 يصل إلى 75 مليون دولار بالإضافة إلى 36 ألف دولار تكلفة لساعة الطيران الواحدة، بمقابل سعر المقاتلة الأمريكية F-35 الذي يصل إلى 180 مليون دولار بالإضافة إلى 43 ألف دولار تكلفة لساعة الطيران الواحدة! وهذه الفوارق الهائلة لا حصر لها وفي كل الميادين، هذا إذا لم نناقش النواقص التقنية والعسكرية التي تجعل من السلاح الأمريكي غير قادر على المنافسة في الميدان، لا بل لا يطابق المواصفات التقنية المتفق عليها مع وزارة الدفاع الأمريكية أصلاً! فالغواصة النووية المصنّعة من قبل شركة جنرال ديناميك بتكلفة 126 مليار دولار بقيت لمدة عامين معيبة بعيوب تلحيم شديدة! وحاملة الطائرات الجديدة فورد، والتي بنتها شركة هنتنغتون إنغلز بتكلفة 13,2 مليار دولار، تحوي نظام إطلاق ذري معطل لم ينجح بإطلاق الطائرات وفقاً للتصميم المتفق عليه! أي: إن الشركات الخاصة الامريكية التي تصنّع السلاح بشكلٍ حصري تفرض أسعاراً باهظة جداً بمواصفات رديئة، ذلك لأنها تتمتع بنفوذ كبير ضمن البنتاغون ومراكز صنع القرار في البلاد.

هذه المعطيات التي ذكرت وغيرها الكثير تؤشر على مستوى فساد هائل يأخذ صبغة قانونية! فالشركات الخاصة الأمريكية والتي نظر إليها البعض في فترة تاريخية ما كرافع للولايات المتحدة الأمريكية بالمعنى الاقتصادي والعسكري تعمل لمصالحها ومصالحها فقط، فتراجع وزن الولايات المتحدة الأمريكية في المعنى العالمي لا يشكل بالنسبة لرؤوس الأموال العابرة للقارات مشكلة حقيقية، فبيع السلاح الذي بات البعض يرى فيه «خردةً باهظة الثمن» إلى وزارة الدفاع الأمريكية لا يخدم الأمن القومي الأمريكي، والطريقة التي تجري فيها إدارة الأزمة الصحية التي تشهدها البلاد لا تخدمه أيضاً، وهذا ينطبق على التعامل مع الاحتجاجات القائمة ونسب البطالة المرتفعة والانتخابات في ظل الانقسام الحاد، والتي تشكّل مجتمعة خطراً حقيقياً يجب أن يدفع إلى معركة حياة أو موت لا إلى محاباة هذه الشركات الفاسدة!

معلومات إضافية

العدد رقم:
973
آخر تعديل على الإثنين, 06 تموز/يوليو 2020 16:03