أمريكا.. الجيش يعود إلى بيته المشتعل!
يطلق الرئيس الأمريكي تطميناتٍ يومية يؤكد فيها قدرته على ضبط الأمور في البلاد التي تشهد احتجاجات واسعة، متناسياً أنه قبل بضعة أشهر كان يطلق وعوداً مشابهة عن قدرته على درء الوباء عن الولايات المتحدة، ومؤكداً أن بلاده ستكون آمنة من فيروس كورونا المستجد، لتشهد الولايات المتحدة كارثة قد تكون الأكبر في تاريخها، والتي راح ضحيتها إلى الآن أكثر مما خسرته الولايات المتحدة في حروبها منذ حرب فيتنام إلى اليوم! فماذا ستكون نتيجة هذه التطمينات الجديدة؟!
أثبت ما جرى في العالم خلال الأشهر القليلة الماضية الدرجة الكبيرة من الترابط بين دول العالم، والتي بدت في كثير من الأحيان بعيدة عن بعضها إما سياسياً أو جغرافياً، في حين تظهر اليوم شديدة التداخل ولا يمكننا القول إن فيروس كورونا وحده ما يجمعنا، وإنما الصراع الطبقي أيضاً، والذي يزداد شراسةً، فإن إدراكنا أننا أصبحنا نعيش ظروفاً أكثر تشابهاً من قبل يفرض علينا أن نسعى للخلاص الذي لن يكون إلا إذا استطعنا الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تنتصب أمامنا. فلا تزال الولايات المتحدة مركزاً لكثير من الخيوط التي تربط العالم، وهذا يعني أن اهتزازها على وقع الضربات التي تتلقاها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، يعني أنها سترتد على العالم كله، وإن كانت المظاهرات التي ملأت المدن الأمريكية قد لاقت صدىً في مدن عالمية أخرى، فهذا ليس إلا استكمالاً وتوسعاً لحركة احتجاجية عالمية ذات مطالب أممية ملحة.
واقع الاحتجاجات الأمريكية إلى الآن
تشهد المظاهرات التي انطلقت كرد فعلٍ على قتل جورج فلويد في أحد شوارع مدينة منيابوليس تضخماً متسارعاً، فقد شملت المظاهرات الولايات الـ 50 ، وتقول التقديرات المتغيرة على مدار الساعة: إن الاحتجاجات قد طالت أكثر من 430 مدينة حتى الآن، ويبدو أن ضبط الشارع بات عملية صعبة، فهي احتجاجات واسعة جداً تتزامن مع انكماشٍ اقتصادي بوتيرة أسرع من أيام الكساد العظيم، مما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة خلال فترة قياسية، حيث ارتفعت من 4% إلى 25% وهذا ما دفع بـ 40 مليون مواطن أمريكي للجلوس في منازلهم أو في الشوارع بعد فقدانهم لوظائفهم، الظرف الاجتماعي كان محتقناً أصلاً إلا أنه وصل إلى درجة الغليان، وهذا متوقع بالطبع، ولكن تعقيد الظرف الحالي يجعل من هذه الاحتجاجات ذات طبيعة خاصة، فيبدو أن أصحاب القرار داخل الولايات المتحدة يدركون حجم التحول الجاري، وهو ما يتطلب من المالكين الانتقال إلى شكل القمع المباشر القاسي.
فإن كنا سمعنا باسم الحرس الوطني الأمريكي سابقاً، وإن كان قد تدخل بالفعل في عدة مناسبات، إلا أن الولايات المتحدة تشهد انتشاراً كبيراً جداً لهذه القوات، والتي باتت منتشرة في 25 ولاية، وبلغ تعداد المقاتلين المنتشرين أكثر من 30 ألف عنصر حتى الآن.
وترتبط بتاريخ هذه القوات العديد من الصدامات ذات الطابع العنصري والقمعي، والتي يعود بعضها إلى قمع احتجاجات وحراكات العمال في العام 1877 والتي قمعتها في حينه قوات الحرس الوطني على نفقة رجال الأعمال وأصحاب النفوذ، وفي العام 1894 شاركت قوات الحرس الوطني بقمع إضراب عمال شركة بولمان، الذي وصل عدد العمال المشاركين فيه إلى 250 ألف عامل، وظلت هذه القوات تؤدي مهمتها في الحفاظ على شكل توزيع الثروة المجحف القائم في الولايات المتحدة، وتقف في وجه كل محاولات الطبقات المسحوقة للانتفاض في وجه مستغليها، فشاركت في قمع العمال في أحداث كولورادو مطلع القرن العشرين، وجرى استخدامها في تسعينات القرن الماضي في أحداث لوس أنجلس التي شهدت اضطرابات كنتيجة لنشر شريط مصور لقيام شرطة لوس أنجلس بضرب المواطن رودني كينغ، والذي يشترك مع فلويد ببشرته السوداء، وبأنه كان شرارة لحركة احتجاج كبيرة قبل 20 سنة من الآن.
الحرس الوطني الذي ينتشر في 25 ولاية أمريكية بعد أن جمعت قواته من 30 ولاية لن يكون قادراً على تغطية رقعة الاحتجاجات التي تتوسع يومياً، حتى وإن نجحوا في وأدها الآن، إلا أنها ستعود أوسع وأكبر قريباً، فالولايات المتحدة الأمريكية، قلب النظام العالمي المهتز، تمضي في طريق لا رجعة عنه، سيفرض عليها التنازل عن عرشها، وستكون أمريكا محظوظة إن نجحت في الحفاظ على بلاد متحدة، فالوحدة الأمريكية كانت قائمة على المنفعة المشتركة لا على تقاسم الخسائر، أي أنها ولايات متحدةٌ في السراء فقط، وغياب حركة جامعة حقيقية حتى الآن يزيد من مخاطر الانقسام الحالي.
حركة احتجاجية عابرة للانقسامات؟
التمييز العنصري في الولايات المتحدة قائم ولا يمكن إنكاره، فأصحاب البشرة السوداء لم يحصلوا على مساواة حقيقة حتى بعد أن نالوا «حريتهم» بعد زمن العبودية، فالأحرار الجدد كان عليهم أن يقبلوا «طوعاً» بـ «الأسياد الجدد» وأن يبيعوا قوة عملهم لمالكي وسائل الإنتاج، ونرى هنا أنهم يشتركون مع أبناء طبقتهم البيض الذين يشكلون مجتمعين أكثر من 90% من سكان الولايات المتحدة. المشكلة أن التشابه الشديد في ظروف المستغلّين يراه مستغلوهم بوضوح، لذلك كان الهدف الذي تضعه النخب الثرية هو حرف الصراع، فكانت ميزة العمال البيض أنهم يحتاجون حياة واحدة لسداد ديونهم، بينما يحتاج العمال السود أكثر من حياة واحدة لسداد ديونهم! هذا إلى جانب الكثير من الميزات الأخرى التي يتمتع بها الفقراء البيض عن الفقراء السود، والتي كانت عاملاً جدياً لحرف الصراع عن مكانه الصحيح، وكانت سبباً لدفع جيوش الفقراء للصراع فيما بينها، هذا لا يعني بالطبع أننا نقول: إن الظروف التي تعيشها الأعراق في الولايات المتحدة متساوية، فالعمال ذوو الأصول الإفريقية يحصلون على أجور أقل وترتفع معدلات الفقر لدى عائلاتهم، وتتعامل الشرطة في الولايات المتحدة بتمييز واضح ضدهم، وتعد معدلات الاعتقال لأصحاب البشرة السوداء أعلى بأضعاف من أصحاب البشرة البيضاء، لكن هذا النوع من التمييز المكشوف والعلني الذي وصل إلى قتلهم في الشوارع دون أية رحمة هو فعلٌ مركب، فهو قمعٌ يقوم به مالكو الثروات بوجه منتجيها المحرومين منها قسراً، وهو قمعٌ ملازمٌ للمجتمع الطبقي منذ نشوئه، ولكن الفعل هذا يهدف إلى شق صفوف المسحوقين في المجتمع ليكونوا تحت تقسيمات ثانوية كالعرق والجنس وغيرها.
هذا الظرف الذي نشأت به الحركة الاحتجاجية في الولايات المتحدة وإن كانت اليوم حركة عابرة للأعراق– أي يشارك بها الأمريكيون على اختلاف أعراقهم– إلا أنها لم تتجاوز بعد كونها إطاراً يجعل من البيض المشاركين في هذه الاحتجاجات متضامين فقط لا أصحاب حقٍ أيضاً. وإذا لم تستطع الاحتجاجات الخروج من هذه الدائرة ستتحول لوقودٍ يستخدم في تعميق الانقسام في النخب السياسية الأمريكية لا حركة تُوحد المجتمع وتواجه هذا الانقسام من موقع الند.
فالنخب الأمريكية المنقسمة تبدو اليوم وكأنها منقسمة في موقفها من الاحتجاجات، فيظهر ترامب وهو يدعو إلى قمع المتظاهرين دون رحمة، ويظهر خصومه بوصفهم دعاة الحرية والعدالة، ويبدو هذا الانقسام واضحاً في قرار استخدام الجيش والحرس الوطني لقمع الاحتجاجات، فالولايات التي يحكمها الديموقراطيون ترفض استخدام الحرس الوطني، لا حرصاً على المحتجين بل في محاولة لتحميل مسؤولية استخدامهم لترامب، الذي يقرأ الأحداث على أساس أن الحركة الاحتجاجية الأكبر تندلع في المناطق التي لم تكن ضمن جمهوره سابقاً، وهو يستخدم قمعها كجزء من حملته الانتخابية، وعلى الرغم من أن حديث ترامب يبدو وقحاً إلى أنه لم يختلف عن أحاديثه ولغته السابقة، فالرئيس الحالي استخدم المواقف العنصرية لحشد مناصريه، وقام بجمعهم على الرغم من مواقفه اليمنية المتطرفة، وبهذا تجعل الحركة الاحتجاجية بشكلها الحالي أداة يمكن استخدامها من قبل النخب المتخاصمة دون أن تدرك أن ترامب «وريث العنصرية» وليس صانعها، وأن مناصري ترامب الجمهورين المنتخبين هم حكام أكثر من نصف الولايات الأمريكية.
ذئبٌ في زي المخلص
إذا نظرنا إلى التاريخ الأمريكي القريب منه والبعيد لا نرى اختلافاً جذرياً، فالقمع والعنصرية كانا ملازمين للتاريخ الأمريكي الدموي، واشتداد القمع والعنف الذي نشهده في الشوارع اليوم لا يعني أن ترامب أكثر دموية من سابقيه، بل يعني أن درجة سيطرة النخب على الشعب الأمريكي باتت أضعف، وأن وسائل السيطرة والهيمنة التي كانت دائماً سلاحهم الأول لم تعد تجدي نفعاً، أو على الأقل لم تعد تكفي، وحاجة ترامب اليوم للعودة إلى تقاليد أجداده بالقمع الجسدي المباشر هي خياره الوحيد، إذ يرى أن الحفاظ على النظام القائم لم يعد ممكناً بالوسائل المتبعة، وإن كان الانقسام الحالي ينخر جسد الولايات المتحدة فهو خيارٌ لا راد له لحراس النظام الذي يمضي إلى حتفه بخطى متسارعة. والهدف بالحفاظ على النظام لم يكن هدف ترامب، بل يشاركه كل من جون بايدن وهيلاري كلينتون وباراك أوباما وأي طفلٍ مدللٍ آخر لهذا النظام، فوصف المحتجين بـ«الحيوانات المفترسة» والتي يجب القضاء عليها، لم يأت على لسان دونالد ترامب بل هي كلمات جو بايدن الذي كان مصراً في فترة الاحتجاجات التي خرجت 1992 نصرةً لرودني كينغ بعد ضربه بشكل وحشي من قبل شرطة لوس انجلس، واعتبر أن مكان هؤلاء المحتجين هو السجن، وقال: إنه يجب أن يتم عزل «الحيوانات المفترسة» هذه «بعيداً عن أمي، وزوجتي، وعائلاتنا»، وهو ما يجعل الطريقة التي يدافع بها بايدن عن المحتجين اليوم مضحكةً، ويؤكد أن النخب الأمريكية المفلسة لم تعد قادرة على تقديم شيء جديد، ووصلت إلى طريق مسدود، وإن كانت ذاكرة المحتجين اليوم قصيرة ولا يعرفون سوى بايدن «المتسامح التقدمي» ولم يخبرهم آباؤهم عن بايدن «المتطرف العنصري» فلن تطول الأيام كثيراً حتى يكشّر كغيره عن أنيابه.
هل لذلك تأثيرات على العالم؟!
كون أمريكا حاضرة بشكل كبير في العالم، فإن ما يجري فيها ينعكس دائماً خارج حدودها، وإن كان للانقسام والتراجع الأمريكي أثرٌ واضح في كل العالم، ولم تستطع الحفاظ على مركزها كقطب واحد في العالم، فما يجري اليوم له تباعات أيضاً أكثر وضوحاً، فالانسحاب العسكري الأمريكي الذي كان يجري بشكل تدريجي يتسارع اليوم، وإن كانت الانسحابات تجري من أفغانستان والعراق وسورية والخليج فهي اليوم تجري في أوروبا، وإعلان ترامب عن سحب ثلث القوات الامريكية الموجودة في ألمانيا ما هو إلا البداية لانسحابات أوسع، وإن كانت الانسحابات السابقة تجري بسبب عدم قدرة الولايات المتحدة على تحمل تكاليف هذه القوات لا اقتصادياً ولا عسكرياً، فيضاف اليوم أن لهذه القوات دورٌ داخل البلاد للمرة الأولى منذ قرون! فنشر قوات لقمع احتجاجات في كل الولايات والمدن على مساحة تقارب مساحة أوروبا لن يكون عملاً سهلاً وقد لا تكفي القوات الأمريكية كاملة لأداء هذه المهمة.
وحتى إن شهدت الاحتجاجات انخفاضاً في حدتها أو انتشارها، لا يعني ذلك أن أسبابها العميقة قد اختفت، فالتراجع الأمريكي بات جزءاً من حركة التاريخ. وإن كانت السيناريوهات المطروحة اليوم حول مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية تحتاج قراءة أكثر عمقاً من تلك التي تقول: إننا نشهد بداية حرب عالمية جديدة. إلى تلك التي تقول: إن الولايات المتحدة ستصبح مجموعة دويلات منقسمة وربما متحاربة، إلا أن الظرف في هذه اللحظة يسمح بخروقات وانتصارات على جبهات عالمية كثيرة، فالاستعمار القديم انتهى بعد أن خرجت الدول المستعمرة منهكة من الحرب العالمية الثانية، وإن دول الاستعمار الجديد تدفع فاتورة كبيرة تشابه ما فقدته في حروبها تلك. والولايات المتحدة لن تستطيع مد يد العون لكل النظام العالمي وهي تغرق، فالمظاهرات التي خرجت في مدن أوروبا والعالم تضامناً مع انتفاضة الشعب الأمريكي تتحول لحركة احتجاجية عالمية لن يكون من السهل تحديد من أين تبدأ وأين تنتهي.
على الهامش
قد تكون إحدى أكبر العقبات التي تواجه الحركة الاحتجاجية الأمريكية الحالية هي درجة الهيمنة الكبرى التي تمارسها كل مؤسسات إنتاج الوعي، فالنخب الأمريكية التي تخدم النظام الحاكم بإخلاص حافظت على أعلى درجات الهيمنة في المدراس والجامعات ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، وإن كان يمكن لأية وسيلة إعلام أو جامعة نشر شيء لا يخدم المنظومة، تبقى هذه النسبة قليلة التأثير بشكل ملحوظ، ويبدو هذا المثال في الإعلام الأمريكي واضحاً، فيعمل في الإعلام الإلكتروني والمتلفز والمطبوع والمسموع جيشٌ من الإعلاميين يصل تعداده إلى مليون ونصف، وإذا علمنا أن أكثر من 90% من هؤلاء الموظفين يخدمون 6 شركات فقط نستطيع إدراك حجم الخطر الذي يواجه هذه الحركة الاحتجاجية!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 969