الخرطوم ... عاصمة اللاءات الثلاث لا التطبيع
بعد فترة هدوء نسبي عاد المشهد السوداني إلى الواجهة بدرجة تعقيد أكبر داخلياً وإقليمياً، وترتبط التطورات الأخيرة في السودان باللقاء الذي جمع رئيس المجلس الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، على الرغم من أن هذه الخطوة لم تترجم إلى اليوم بتطبيع كامل وشامل إلى أنها مؤشر خطير يجب الوقوف عنده.
بالتوازي مع هذا الحدث، أجرى رئيس وزراء السودان عبد الله حمدوك مجموعة لقاءات على هامش مؤتمر ميونخ، حيث التقى كلاً من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ووزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، أما في داخل السودان، فتظهر بوادر لتجدد الحركة الاحتجاجية التي استكانت في الفترة القصيرة التي تلت تشكيل المجلس الانتقالي السوداني.
تحركات الشارع
ترى العديد من القوى السياسية أنَّ الفترة الانتقالية التي يعيشها السودان اليوم تعتبر التجسيد الحقيقي لمطالب السودانيين الذين خرجوا إلى الشارع يطلبون التغيير، إلا أن الواقع يثبت عكس هذا، فالوضع الاقتصادي في السودان يزداد سوءاً والمشكلة تكمن أن الحكومة الحالية لا يبدو أنها تملك برنامجاً يضمن التحول الجذري المطلوب بل العكس، فهي ماضية بخطوات تتمم ما بدأه النظام السابق، مما يزيد الوضع الاقتصادي تعقيداً في البلاد، وفي هذا السياق وخلال الأسبوع الماضي شهدت عدة مناطق من السودان مظاهرات لم تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل حمل المتظاهرون في العاصمة الخرطوم شعارات رافضةً للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وما هي إلّا أيام حتى خرجت مظاهرة أخرى في مدينة عطبره التي انطلقت منها شرارة المظاهرات الأولى في 2018، بسبب انعدام الخبز في المدينة، وانتقلت هذه المظاهرات إلى مدينة كوستي التي احتجَّت أيضاً على انعدام الوقود والخبز. هذا بالإضافة إلى مجموعة مظاهرات ووقفات احتجاجية في مناطق متفرقة من السودان ترفض معظمها الأزمات التي يشهدها السودان، وتطالب بإقالة حكام الولايات العسكريين الذي يراهم الشارع عاجزين عن وقف تدهور الأوضاع في البلاد.
«البرهان» لم يتحرك وحيداً
على الرغم من أن تركيز وسائل الإعلام على أن خطوة عبد الفتاح البرهان كانت مبادرة شخصية، إلّا أن حديث البرهان نفسه يقول عكس ذلك؛ فبعد أن تم اللقاء أعلن البرهان أن هذا اللقاء كان بعلم رئيس الوزراء السوداني، وفي تصريحات أطلقها رئيس المجلس الانتقالي لوسائل الإعلام قال فيها إن العلاقات والاتصالات مع الجانب «الإسرائيلي» ستكون على طاولة مجلس الوزراء، وأضاف البرهان أنَّ الجهاز التنفيذي أنشأ لجنة مصغّرة لمتابعة هذه القضية «حين يتم التوافق عليها». ولكن يبدو أنَّ مساعي البرهان تواجه عقبات داخل التركيبة الحالية للمجس الانتقالي السوداني والحكومة، ولا نستطيع الجزم أن هذه العقبات كفيلة بعرقلة التطبيع والتراجع عنه، لكنها ستشكل حائط صدٍ حقيقي إذا ما اتحدت مع القوى الشعبية والسياسية الرافضة للتطبيع. ففي الوقت الذي اكتفت التصريحات الرسمية بضرورة التزام البرهان بالصلاحيات الموكلة له، أعلنت مجموعة قوى سياسية سودانية لها وزن مهم رفضها لهذه الخطوة، وجرى رفض لزيارة البرهان من قبل شخصيات داخل المجلس الانتقالي كان أبرزها استقالة مسؤول العلاقات الخارجية في المجلس الانتقالي.
استمالة السودان
تبنى البرلمان الألماني في الأربعاء 12 من شهر شباط الجاري قراراً باستئناف التعاون التنموي والاقتصادي مع السودان، وجرى على هامش مؤتمر ميونخ للأمن لقاء بين رئيس الوزراء السوداني والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي أكدت في مؤتمر صحفي أنَّ بلادها خصصت 78 مليون يورو للمساعدة في «استقرار السودان والحكومة الانتقالية»، وتبدو خطوة البرلمان الألماني بإلغاء الحظر المفروض على السودان منذ 1989 على شكل جائزة صغيرة في مقابل «المرونة» التي يبديها السودان اتجاه الكيان الصهيوني، إلا أن الجائزة والهدف الذي يسعى إليهما البرهان، هي رفع السودان عن قائمة الإرهاب الأمريكية، ويبدو أنها لا تزال بعيدة المنال كما هو متوقع؛ إذ أكد وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو يوم الخميس الماضي، أن الإدارة الأمريكية لم تتخذ قراراً بشأن رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، مضيفاً أنّ «قراراً من هذا النوع يؤخذ بتأنٍّ شديد لحساسية التصنيف»، وهو ما يؤكد سعي الولايات المتحدة الأمريكية الدائم لابتزاز السودان عبر هذه الورقة حتى اللحظة الأخيرة، ودفعه لتقديم تنازلات تمس سيادته وتناقض مصلحة السودانيين.
خطوات محكومة بالفشل
يمكننا الجزم، أن عبد الفتاح البرهان لم يكن صاحب فكرة التطبيع الآن- وإن كان يبدو أشدَّ حماسة من أصحاب الفكرة أنفسهم– فإذا نظرنا من زاوية «المصلحة الوطنية» التي يعتبرها الدافع لتوجهه المشؤوم هذا، نرى السودان يُرسّخ بذلك علاقات التبعية للغرب التي بات تغيرها لزاماً بل وشرطاً لبقاء السودان، ويبدو وكأن أطرافاً في السودان– يظهر البرهان في واجهتها اليوم– لا تمانع من استخدامها كأداة رخيصة لخدمة المشروع الأمريكي والصهيوني في المنطقة، وتتناسى هذه الأطراف أنّ الكيان الصهيوني لعب دوراً فاعلاً بتقسيم السودان، ولن يحمل اليوم في جعبته «حريةً وسلاماً»، هذا بالإضافة إلى أن الكيان لا ينسى اليوم أن الخرطوم كانت «عاصمة اللاءات الثلاث» (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض) لهذا يحمل تطبيع العلاقات مع السودان نكهة خاصة، ويحمل دلالة رمزية تأمل الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني عبرها أن تمسح جزءاً من ذاكرة المنطقة، لا السودان فحسب. لكن الخطوات العرجاء «لصفقة القرن» لن تقدِّم إلا الأزمات للمجلس الانتقالي السوداني، وخطوات «فريق التطبيع السوداني» ستلعب دوراً ملحوظاً في فرز القوى المؤثرة على الساحة السياسية في البلاد، فهي تفشل قبل أن تبدأ وتضع القضايا الوطنية إلى جانب القضايا الاقتصادية والسياسية التي تشغل الشارع السوداني اليوم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 953