قراصنة القرن الحادي والعشرين
تراجعت حدّة لهجة واشنطن مع إيران واتجاه الاتفاق النووي بعد قمّة مجموعة العشرين الأخيرة، وإن بالجانب الشكلي على أقل تقدير، ليحلّ محلّها تصعيدٌ بريطاني يرفع من حالة التوتر ويديمها في منطقة الخليج العربي، لأسباب: منها ما يتوافق مع رغبة الطرف الأمريكي، وأخرى تتعلق بأزمة بريطانيا نفسها.
تحتجز البحرية البريطانية منذ أكثر من أسبوع ناقلة نفط إيرانية في مضيق جبل طارق، بذريعة الاشتباه في أن شحنتها متوجهة إلى سورية، خرقاً لعقوبات الاتحاد الأوروبي على دمشق. ثم صرّحت لندن يوم الخميس الماضي بأن ثلاثة قوارب إيرانية حاولت منع مرور سفينة نقل بريطانية في مضيق هرمز، وأن القوارب الإيرانية «انسحبت بعد تحذيرات» تلقتها من سفينة حربية بريطانية. الأمر الذي نفاه تماماً الجانب الإيراني في بيان صدر عن قوات البحرية، في اليوم ذاته ذكر فيه «قواتنا البحرية تجري طلعاتها التفقدية في مياه الخليج وفقا للمهام الموكلة إليها... ولم تكن هناك أية مواجهة مع أية سفينة أجنبية، بما فيها السفن البريطانية، خلال الساعات الـ 24 الماضية». لتكون هذه الخطوة البريطانية كسابقاتها، تُهماً وذرائع مُعدّة مسبقاً بغاية التصعيد ورفع حدّة التوتر.
رفع نسبة التخصيب
تأتي هذه التطورات خصوصاً بعد إعلان إيران رفع نسبة تخصيب اليورانيوم في مفاعلاتها لأكثر من 3,6% المُحدد ضمن الاتفاق، رداً على ضغوط وعقوبات واشنطن وعرقلتها لمفاوضات الاتفاق النووي الإيراني. مُهددة بذلك الدول الموقعة على الاتفاق بأنها إن لم تفِ بالتزاماتها، واكتفت بالحلول الكلامية، فإن طهران ستنفذ خطوتها الثالثة بقوة أكبر. حيث قال كمالوندي المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية سابقاً: «نحن لا نحتاج نسبة العشرين في المئة الآن، ولكن إذا احتجناها فسوف ننتجها. وحينما تجاوزنا مستوى 3,67 في المئة من التخصيب، لم تكن هناك عقبة أو مشكلة».
رغم التقييد والتضييق، تقدّم
فيما يخصّ التصعيدين المتعاقبين، الأمريكي والبريطاني، فإن كليهما في المعنى العام يتفق على محاولات تطويق وتقييد النشاط الاقتصادي الإيراني ومن خلفه الصيني، وتحديداً إنتاج النفط وتصديره، لصالح حلفائهم في الخليج العربي، سواء على المستوى القريب أم الإستراتيجي. محاولات تبوء بالهزيمة بعد كل تصعيد، فبالمعنى المجازي تمكن القول: إنّ ما من شيء لدى طهران تخسره أكثر مما هو حالها اليوم، وما كل العقوبات بالنسبة إليها إلا دفعةً باتجاه تنمية اقتصادها في الداخل وتعزيزه تعويضاً عن تجاراتها الخارجية، مما يجعلها يوماً بعد آخر بموقع أفضل من سابقه، وأكثر تماسكاً وهو ما يجري، مما سوف يضعها بموقع أكثر تقدماً في المستقبل فور استعادة نشاطها التجاري إلى حالة طبيعية لا أثر فيها للعقوبات الأمريكية بعد تراجعه المستمر.
أزمة بريطانيا دافعٌ آخر
لكن ورغم ذلك، لا يمكن التغافل عن العامل الداخلي لبريطانيا في تصعيدها مع إيران، سواء فيما يخصّ مسألة احتجاز الناقلة الإيرانية في مضيق جبل طارق، أم ادّعاء اعتراض الإيرانيين للسفينة البريطانية في مضيق هرمز. ففي ظل أزمة «بريكست» ما بين الاستفتاء غير المنجز بالخروج، وبين أزمة الحكم الحاصلة في الأروقة البريطانية، مما يشكل أرضية جاهزة لاحتجاجات شعبية باتت تظهر مؤشراتها، يحاول البريطانيون بالمعنى التقليدي لإحدى وسائل القمع، صُنع عدوّ خارجيّ، وتوتر معه، يغطي أزمة الداخل ويكبح القوى فيها عن التحرك في الوقت الراهن، كمن يشتري الوقت لحين حلّ القضايا العالقة... والتي بطبيعة الحال لن تُحل قريباً، ولن تُحل إلا بتغييرات حقيقية.
البوصلة تدور وتدور، لا وجهة حقيقة سوى...؟
من المهم الإشارة إلى أنّ حالة التصعيد الغربية عموماً، ومؤخراً على مجمل النشاط الاقتصادي العالمي، سواء بالنقل البحري مثلما يحصل في الخليج، أم الجوّي عبر رفع الضرائب، أو حوادث سقوط الطائرات أو هبوطها الاضطراري بين حين وآخر بذرائع مختلفة، أم على المستوى البري بالتوتيرات العسكرية المستمرة في أغلب مناطق الأرض، أم على مستوى الاتفاقيات التجارية العالمية نفسها بانسحاب واشنطن منها، وحربها الأخيرة مع الصينيين، كل هذا يجري بشكل واضح ومباشر تعبيراً عن الأزمة الرأسمالية عالمياً دون أية إمكانية لتغطيتها بعباءات سياسية، ثانوية كانت أم وهمية، كما كان يجري سابقاً، لتتوضح تماماً حالة «البلطجة» الغربية والأمريكية خصوصاً. في علاقة ناهب ومنهوب، لم يعد بإمكان الماكينة الإعلامية الغربية تغطيتها بزيف «الديمقراطية الأمريكية». ليمكن وصف ما يقومون به على مستوى النشاط الاقتصادي البحري بـ «القرصنة» بكل ما للكلمة من معنى... قراصنة القرن الحادي والعشرين، بسفنهم المثقوبة، وجهتها للأسفل، نحو الغرق.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 922