السودان:البشير رحل.. و«لم تسقط بعد»!
بالرغم من انقلاب الجيش السوداني على الرئيس عمر البشير، الخميس الماضي، لايزال السودانيون في الساحات يرفعون شعار «لم تسقط بعد». فلم يكتفِ المتظاهرون بإعلان اختفاء الرئيس السوداني، لترك الشارع، إذ لا يزالون يتمسكون بمطالبهم السياسية والاقتصادية وسط العديد من المخاوف؛ كلعبة تبديل الوجوه لرموز الحكم، ومحاولات اختطاف الحركة الشعبية السودانية ومخاطر إثارة النزاعات المسلحة في البلاد
أفضت الاحتجاجات الشعبية في السودان على مدى الأشهر الأربعة الماضية إلى تحولات دراماتيكية تؤشر على دخول البلاد في أزمة عميقة لم تتضح آفاق حلها حتى الآن. فبعد تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي خرجت الجماهير تدريجياً إلى الساحات احتجاجاً على رفع أسعار الخبز والمحروقات ومطالبة بالإصلاح ومكافحة الفساد. وما لبث أن تطور الحراك بعد ذلك إلى المطالبة برحيل الرئيس عمر البشير والزمرة الحاكمة. وعقب محاولة الأجهزة الأمنية قمع المتظاهرين، وقتلها العشرات منهم، توجهت الجماهير إلى مقرات الجيش رافعة شعاراتها ومطالبها التي تصدرها شعار «تسقط بس!»، ليضع ذلك نظام الحكم في مأزق قاد إلى سلسلة من التحولات.
البداية انقلاب
لم يتوقع حتى المتظاهرين السودانيين أن تشهد ثلاثة أيام فقط تعاقُب ثلاث واجهات للنظام بعد جثومه على كاهل البلاد لثلاثين عاماً. ففي فجر الخميس الماضي، 11 إبريل، أُعلن عن انقلاب ضد الرئيس السوداني بقيادة وزير الدفاع الفريق أول عوض بين عوف، الذي أعلن في بيان أنه شكل «مجلساً عسكرياً» لقيادة البلاد لمدة سنتين كفترة انتقالية لتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة، وعن «إطلاق حالة الطوارئ لثلاثة أشهر، وحظر التجوال في عموم السودان من الساعة 10 مساءً إلى الرابعة صباحاً لمدة شهر». وقوبل البيان بردود فعل غاضبة من الجماهير، التي برز في واجهتها إعلامياً «تجمع المهنيين السودانيين» الذي يضم مجموعة من النقابات التي تشكلت ذاتياً. ليظهر لاحقاً تحالف «إعلان قوى الحرية والتغيير»، المكون من مجموعة أحزاب مع «تجمع المهنيين السودانيين». واتهمت الواجهات المذكورة خطوة بن عوف أنها حركة التفافية لتأريض الحراك الشعبي، وأنها تمت بترتيب مسبق بين كل الأطراف المكونة للنظام السوداني بما فيها الرئيس عمر البشير، مطالبة في الوقت ذاته بتسليم السلطة في البلاد إلى حكومة مدنية انتقالية من «قوى الحرية والتغيير». ومن جانب آخر، كان لافتاً إعلان الفريق محمد حمدان دقلو حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، عن رفضه المشاركة في المجلس العسكري. وكذلك ابتعاد قائد المخابرات السودانية، صلاح قوش عن دائرة الضوء أثناء فترة الإعلان عن الانقلاب، ما أعطى إيحاءً بوجود خلافات محتملة بين أقطاب الانقلاب.
«تسقط تاني!»
لم تمضِ أربع وعشرون ساعة على إعلان بن عوف انقلابه على البشير حتى خرج مجدداً ليعلن استقالته من رئاسة «المجلس العسكري» وإسناد مكانه للفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن، والذي يشغل منصب المفتش العام للجيش. وما لبث الأخير أن دعا القوى والأحزاب وممثلي الجماهير إلى الحوار، إضافة إلى «إلغاء حالة حظر التجوال، إطلاق سراح المتظاهرين المعتقلين وفقاً لقانون الطوارئ، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد». وكذلك وافق البرهان على «تشكيل حكومة مدنية انتقالية في مدة أقصاها سنتين» تمهيداً لتسليم البلاد لاحقاً لحكومة منتخبة. وبالفعل بدأت مشاورات البرهان في اليوم ذاته عقب الإعلان المذكور مع «قوى الحرية والتغيير» والأحزاب والقوى السياسية السودانية.
هل هي «الخطة ب»؟!
بالغوص أكثر في أبعاد ما يجري في كواليس النظام السوداني، ينبغي ملاحظة، أن الضغط الجماهيري والشعبي على السلطة الذي توّج بانضمام عسكريين من أصحاب الرتب المتوسطة والصغيرة إلى جموع المحتجّين، أجبر السلطة على اتخاذ تنازلات متتالية لم تخلُ من وضعية «الدفاع النشيط» لاستيعاب الموجة الجماهيرية الصاعدة. تلك التنازلات بدأت بإزاحة البشير والتحفّظ عليه فقط على أمل إرضاء الجماهير وإعادتها إلى منازلها، وهو ما تحقق عكسه فعلياً.
تلا ذلك إبعاد عوض بن عوف وصلاح القوش، رئيس المخابرات السودانية الضالعة في قمع المتظاهرين، والتي تشكل إحدى ركائز الفساد في البلاد عموماً- من واجهة المشهد. كل ذلك في مقابل تلميع صورتي عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق حميدتي. وهذان الأخيران معروفان بارتباطهما مع الحلف السعودي- الإماراتي العسكري في إطار حرب اليمن. إضافة إلى احتمالية ضلوع صلاح القوش بعملية توزيع الأدوار خلال هذه المرحلة الحرجة، وهو الذي يُعتقد أنه على علاقة وثيقة بواشنطن، فقد لمع نجمه من بوابة إدارة العلاقة المتوترة مع الأميركيين منذ أن كان مستشاراً أمنياً للرئيس عام 2011، وكان قد سُجن في ذلك الوقت بتهمة التآمر ضد الرئيس، ليخرج لاحقاً من السجن بضغوط أمريكية في إطار مفاوضات إخراج السودان من «اللائحة السوداء» الأمريكية.
ما البدائل؟
لا شك أن التجربة السودانية الحالية استفادت على نحو كبير من نظيراتها في الدول العربية الأخرى. إذ يُحسب لها تمسكها بالسلمية في بلد يعاني مواطنوه العوز، ويفتقر إلى التنظيم وينتشر فيه السلاح بكثرة. إلّا أن النقطة الأهم التي تحسب لصالح للحركة الشعبية السودانية هي تقدمها نسبياً من ناحية تنظيم صفوفها. فقد تشكّل «تجمّع المهنيين السودانيين» الذي يضم العديد من النقابات غير الرسمية للقطاعات المختلفة، وبات يعكس بشكل أولي جانباً من مزاج الجماهير. إلا أنه وفي المقابل يُخشى على هذه الكيانات الوليدة من اختطافها من قوى أخرى داخل وخارج جهاز الدولة ومن أطراف خارجية أيضاً.
بالملموس، لا تزال هذه الكيانات الوليدة فضفاضة من حيث التركيبة، وفي بعض الأحيان لا تتضح طريقة تمثيلها وتحالفاتها حتى الآن، ويظهر لها الكثير من المتحدثين على وسائل الإعلام من داخل وخارج السودان دون محددات واضحة للاتجاه العام لها، بالإضافة إلى انخراطها ضمن ما يسمى «إعلان قوى الحرية والتغيير»، وهو تحالف يضم مجموعة من الأحزاب السياسية، ومطالبتهم باستلام السلطة مباشرة في الفترة الانتقالية، وهو ما يدور حوله التساؤل من حيث واقعية الطرح، ولا سيما في ظل عدم استكمال عملية فرز وتنظيم قوى الحركة الشعبية.
خيارات واحتمالات
في مقابل تراكم خبرات الحركة الشعبية، تقوم الأنظمة بدورها هي أيضاً من تطوير أدوات المواجهة مع الجماهير. وإذا كان القمع المباشر يعد «فعلاً منعكساً شرطياً» لديها، ومنها النظام السوداني، فهي بلا شك تملك خيارات أخرى متعددة. ففي حالة السودان الخاصة، بات واضحاً أن لعبة تبديل الوجوه من، البشير إلى بن عوف إلى البرهان، هي أولها. لذلك لا يمكن استبعاد وجود ثانٍ وثالث لها.
عملياً قد يستغل النظام حالة عدم تبلوّر الفرز في صفوف الشارع والمعارضة السودانية، ويعمل على بعثرة أوراقه من خلال تمثيل غير متوازن ضمن تشكيلة الحكومة المدنية الانتقالية المرتقب تشكيلها، وتصبح إعاقة عملية التغيير من داخلها.
فيما يتمثل الخطر الأكبر ضمن الظروف السودانية الحرجة باحتمالية إثارة النزاعات الداخلية والأهلية، وبالأخص في ظل توفر الأرضية لذلك، ووجود ميليشيات تابعة للتيار الحاكم، وكذلك «الحركة المسلحة الدارفورية» ونزاعات أخرى في جنوبي السودان.
هذا الاحتمال يمثل التحدي الأبرز في البلدان التي تشهد اختلالاً في العلاقة بين جهاز الدولة والحركة السياسية والمجتمع، والتي يعد السودان أحدها، حيث إن قوى الفساد لديها الاستعداد والقابلية لتحويل نهبها من الحالة التقليدية عبر جهاز الدولة إلى الدخول في تجارة الحرب والتحاصص وعقد الصفقات مع الأطراف الإقليمية والدولية. الأمر الذي ينقل المسؤولية إلى قوى الحراك والأحزاب الوطنية السودانية، ومدى قدرتها على تنظيم صفوفها ضمن الفترة المقبلة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 909