واشنطن... ومخاوف الحديقة الخلفية

واشنطن... ومخاوف الحديقة الخلفية

يستطيع أي متابع لنشرات الأخبار اليومية المنشورة حول فنزويلا أن يلاحظ الجهد العالي المبذول من قبل الأدوات الإعلامية الغربية لتغطية ما يجري هناك وتصويره على أنه يمضي باتجاه سقوط البنية الحاكمة.

بغض النظر عن الخوض بالقضايا المتعلقة بأعداد المؤيدين والمعارضين، ومدى تحسن أو تردي الأوضاع هناك، يمكن التوقف عند بعض النقاط ذوات الطابع الإعلامي التي تشي بما يمكن اعتباره تحيزاً وقحاً ومتوقعاً. فعلى سبيل المثال: لم تقم أية وسيلة إعلام غربية بتصوير تلك التجمعات المؤيدة للرئيس مادورو، وهو ما يعني بطبيعة الحال، أن تلك التجمعات كانت فعلاً ذات حجم كبير وتوجه مناقض للغرب بما يدفع وسائل إعلامه إلى محاولة إخفائها. بالإضافة إلى ذلك يجري التركيز في الإعلام على مقولة واحدة، وهي: أن العقوبات الأمريكية هدفها الضغط على نظام مادورو، متعامية بذلك عن التأثيرات المباشرة لهذه العقوبات على الحياة اليومية لعامة الشعب. وبشكل عام فإن اشتداد الحملة الأمريكية ضد فنزويلا يحمل معه اشتداداً في الضخ الإعلامي حول الموضوع، واضطراداً في كمّ الاخبار المتناقضة وغير الدقيقة والمحرفة.

تجذير سياسات مواجهة الغرب كضرورة

ورغم الحملة الإعلامية المسعورة، فإن الاستياء الدولي والشعبي من التدخلات الأمريكية في شؤون الدول الأخرى قد وصل اليوم إلى مستوى عالٍ، ولم يعد يمضي بالسهولة السابقة، هو ما يمكن التأكيد عليه من خلال الاستقطاب الدولي الجاري حول الموضوع.
لا بد أن النظام في فنزويلا، كأيةِ دولة أخرى، له من المعارضين كما المؤيدين، فقد استطاعت الثورة البوليفارية تأمين حدٍّ كبيرٍ من الاستقلالية الوطنية، والخدمات الاقتصادية الاجتماعية، لكنها لا زالت تحتاج إلى إجراءات تضمن استقلالية أكبر لملكات الاقتصاد الفنزويلي بما يتكامل مع الاستقلالية السياسية ويحمي البلاد من التدخلات الغربية.
ومن الجدير بالذكر، أن الحكومة الفنزويلية مؤخراً طلبت من مشتري نفطها تحويل مدفوعاتهم إلى حسابها الجديد في بنك «غاسبروم» الروسي، الأمر الذي كان من الممكن أن يكون أسهل وأقل ضرراً فيما لو تم قبل الحملة الجارية، وهو المنطق ذاته الذي أتاح لبريطانيا القيام بحجز ما يقارب 31 طناً من الذهب الفنزويلي المودع عندها باعتبارها مركز الادّخار العالمي للذهب، وذلك دون قرار من مجلس الأمن، الأمر الذي يكذّب الاستقلالية السياسية التي كانت تدعيها بريطانيا باعتبارها مركز الادخار العالمي للذهب.

أزمة واشنطن وتحصين حديقتها الخلفية

إن ما يمكن اعتباره استماتة أمريكية لتغيير نظام الحكم في فنزويلا، لها أسبابها الموضوعية، مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات السريعة الجارية في الأوزان الدولية، والتي يمكن ربطها بما يلي:
أولاً: إن محاولة الولايات المتحدة القيام بخطوات سريعة وجدية في محاولة منها لقلب نظام الحكم في فنزويلا، واستهلاك كل هذه الأحداث إلى الحد الأقصى إعلامياً، يعكس ضيق الوقت الأمريكي المتاح لضبط «حديقتها الخلفية»، خصوصاً بعد التجارب المريرة في تلك المحاولات التي كانت تجري بنفس طويل نسبياً في دول، مثل: سورية وكوبا وأوكرانيا، والتي انتهت بجمود إعلامي يعكس حالة التراجع الأمريكية في هذه الملفات.
ثانياً: إن قيام الولايات المتحدة بالتحول نحو خلق بؤر توتر على حدودها القريبة يشي بمحاولة واشنطن تحصين تلك النقاط القريبة من حدودها، والتي يمكن أن تكون نقاط استناد لخصومها في المجالات الاقتصادية والسياسية وربما العسكرية.

الشرق قرار وقدر!

لقد استطاعت أمريكا والدول الداعمة لها، الضغط على فنزويلا نتيجة وجود روابط اقتصادية ومالية تسمح لها القيام بذلك، إلّا أنه من جهة أخرى يمكن القول: إن هذا الحملة تدفع فنزويلا اليوم للتحرر من هذه القيود بما فيها الخير لمستقبل فنزويلا.
ورغم أن درجة الارتباط الاقتصادية والمالية العالية بالمراكز المالية الغربية قد تجعل من عمليات التحول شرقاً في لحظات الاستعصاء أمراً صعباً وبالغاً في التعقيد، إلّا أن تعميق التحول الفنزويلي نحو الشرق اقتصادياً ومالياً قد بدأ بالفعل، مع تشكيل لجنة روسية فنزويلية مشتركة برئاسة نائبي رئيسي البلدين، وذلك لاتخاذ قرارات إستراتيجية سياسية مشتركة وضبط إيقاع المعضلة الفنزويلية دولياً واقليمياً، بالإضافة إلى الاعتماد على بيع النفط للدول الآسيوية وإن بأسعار مخفضة نسبياً، وإجراء كافة التعاملات المالية ذات الصلة خارج منظومة الدولار. لقد صرح مادورو مؤخراً في لقاء متلفزٍ بأن: «آسيا قدرنا»... لكن ألم يكن من الأفضل لو كانت آسيا قراراً منذ البدء؟
تعمل فنزويلا على النجاة من الحملة الأمريكية، كما تعمل واشنطن جاهدة على الانتصار في هذه الجولة، ولكن أياً كانت النتيجة فإنها لن تغير من حقيقة أن مزيداً من العدائية الأمريكية تعني المزيد من تراجع هيمنتها.

آخر تعديل على الإثنين, 18 شباط/فبراير 2019 13:44