«الشرق 2018» و«الرمح الثلاثي3» ومعاهدة «INF)
منذ الـ25 من شهر تشرين الأول الماضي يجري حلف شمال الأطلسي مناورات عسكرية تحت اسم «الرمح الثلاثي 3»، اعتبرت الأضخم منذ حقبة الحرب الباردة، حيث تمتد من بحر البلطيق شرقاً حتى أيسلندا غرباً على طول الحدود الشمالية لدول الحلف، وتضم 29 دولة عضواً إلى جانب السويد وفنلندا، والهدف المعلن منها هو تحسين الكفاءة القتالية للحلف، للدفاع عن الدول الأعضاء في حال تعرضها «لاعتداء».
تزامنت المناورات المذكورة، والتي جاءت رداً على مناورات «الشرق 2018»، مع تلويح الولايات المتحدة بالانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى «INF»، الموقعة مع الاتحاد السوفييتي، والتي تعهدت روسيا بالحفاظ عليها لاحقاً. مما يعكس حالة من التصعيد العسكري تجري على نطاق العالم بين معسكر الغرب ومعسكر دول الشرق الصاعدة.
بين «الشرق 2018)
و«الرمح الثلاثي 3»
تتيح لنا المقارنة بين مناورات «الرمح الثلاثي3» الجارية، ومناورات «الشرق 2018» التي جرت في 11 سبتمبر الماضي، بمشاركة روسيا والصين وتايوان، واعتبرت أيضاً أكبر مناورات عسكرية في تاريخ روسيا الحديث، ومع وجود مفارقة واضحة في الأرقام المعلنة، استيضاح الفارق في القدرات العسكرية بين الجانبين.
فبينما أعلن «الناتو» أن مناوراته وتدريباته تضم 50 ألف عسكري مع 10 آلاف مركبة برية و250 طائرة مقاتلة ومروحية مع 65 قطعة بحرية، ضمت مناورات «الشرق 2018» نحو 300 ألف عسكري، و36 ألف دبابة ومدرعة، وأكثر من ألف مروحية وطائرة مسيرة.
(معاهدة INF»
لنفهم مدى ودرجة التصعيد الحالية لابد من الإلمام ببعض تفاصيل الاتفاقية المذكورة والتي وقعت بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية عام 1987، ودخلت حيز التنفيذ بعد سنة، إثر موافقة الكونغرس عليها، حيث كانت تنص على عدم قيام كل من الطرفين بتطوير أو نشر صواريخ ذات رؤوس نووية أو تقليدية والتي يتراوح مداها من 500 إلى 5500 كم، ولا تشمل الاتفاقية الصواريخ التي يتم إطلاقها من البحر. تم بعد توقيعها بسنتين تدمير ما يقارب 1800 صاروخ سوفييتي تندرج تحت 6 نماذج مختلفة، فيما تم تدمير ما يقارب 850 صاروخاً أمريكياً تُصنف في نموذجين فقط.
إن اتفاقية (INF) صبت في واقع الأمر في مصلحة الجانب الأمريكي في حينه، الذي كان في حالة صعود، وذلك لاعتبارين اثنين يتمثلان أولاً: بكون الاتحاد السوفييتي دولة برّية من الناحية العسكرية ولم يكن بحاجة إلى نشر قوات عسكرية خارج حدوده نظراً لأمتداه العرضي الشاسع، بخلاف الولايات المتحدة، والتي كانت ذات طابع ضيق جغرافياً لتكون دولة بحرية عسكرية، واستثناء الصواريخ البحرية من المعاهدة كان مربط الفرس في هذه المسألة، ولصالحها. فيما يتمثل الاعتبار الثاني في كم ونوع الصواريخ التي تم تدميرها الأمر الذي لا يحتاج إلى الكثير من التدقيق والتحليل لاستيضاحه.
من التراجع إلى الأنهيار
إن درجة ترابط القضايا والمسائل الدولية يتيح لنا التأكيد على المسائل التالية:
أولاً: إن هذه التوجهات تأتي في سياق التصعيد العسكري المباشر من قبل واشنطن ضد القوى الدولية الصاعدة، أُسوةً بالتصعيد على الجوانب الاقتصادية والمالية والسياسية والإعلامية، خصوصاً بعد أن أثبت الجانب الروسي فعالية تراسنته العسكرية في مواجهة نظيرتها الأمريكية، بالإضافة إلى ظهور دول أخرى– ونخص الصين بالذكر- تناقض الولايات المتحدة في توجهاتها، وتمتلك تلك المقومات التقنية والاقتصادية التي تسمح لها بأن تكون نِداً جدياً من الناحية العسكرية للولايات المتحدة.
ثانياً: إن التوجه الروسي الأوروبي المشترك الداعي للحفاظ على اتفاقية «INF» إنما يعتبر ترسيخاً للفكرة القائلة بحالة التناقض بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة وبقية دول العالم في الجهة المقابلة، خصوصاً بعد تكرار المشهد المذكور في عدة قضايا دولية كالملف النووي الإيراني، والرسوم الجمركية الأمريكية. فالانسحاب الأمريكي من المعاهدة يتهدد الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى، فمدى الصواريخ المعنية بالاتفاقية بين البلدين يكون نقطة التقائها الأراضي الأوروبية.
إن التناقض الدولي الذي كان سائداً في الفترة المنصرمة تمظهر على هيئة تناقض بين دول المركز الغربية وحلفائها في اليابان وكوريا الجنوبية وبقية دول العالم، ولكن تعمق الأزمة الرأسمالية الحالية دفع بالأمور إلى تناقض بين مركز المركز الغربي المتمثل بالولايات المتحدة من جهة ودول العالم الأخرى كافة من جهة أخرى.
ثالثاً: إن لجوء الولايات المتحدة تحديداً إلى استخدام التصعيد العسكري، وضد أعدائها الإستراتيجيين تحديداً، ينم على درجة العجز العالية التي بلغتها الأدوات التقليدية الأمريكية، والتي كانت تستخدمها في إطار صراعاتها مع هؤلاء الأعداء.
إن المؤشرات الحالية التي تتمظهر على سطح من القضايا الدولية الساخنة تؤكد أن التراجع الأمريكي قد أصبح من الماضي، وبات يدركه حتى كل ذي بصر، ولكنها أيضاً تشي بأن الولايات المتحدة بدأت بدخول مرحة الانهيار الأمر الذي تؤكده الخلافات المستمرة بين أمريكا وأقرب حلفائها الأوروبيين