البرازيل تدفع بالتفاؤل!
اليمين المتطرف يعود ليضرب أمريكا اللاتينية بعد نحو 50 عاماً، هذا ما أجمعت عليه مختلف المقالات والتحليلات السياسية والاجتماعية حول فوز المرشح جاير بولسونارو عن الحزب «الاشتراكي الليبرالي» لرئاسة البرازيل في الـ28 من الشهر الماضي.
معظم التقارير والآراء والمقالات الصادرة عن وسائل إعلامية أو محللين سياسيين تنعي البرازيل وتشجب لأجلها، متضمنة كُتلاً ضخمة من السلبية والتشاؤم ناهيك عن التخوفات منها ولأجلها، كُل هذه السلبية مفهومة لكن ليست مبررة تماماً، ففوز «اليمين» اليوم لا يعني أن من سبقه كان «يساراً» فعلاً – وهذا ليس قولاً جديداً- وما سوف يختلف اليوم بالنسبة للبرازيل هو أن السيئ سوف يصبح أسوأ، والأسوأ سيمضي للأكثر سوءاً طالما أن الحلول الجذرية والعميقة لم تجد حامليها الجدد بعد، وهذه الـ«بعد» لن تطول أكثر مما مضى من وقت بالنظر للتطورات الدولية السياسية والاجتماعية عموماً، بالتوازي مع التراجع الأمريكي وصعود قوى جديدة تكبح وتردع تلك السياسات الغربية القديمة.
المدى المجدي
لكن التوازن الجديد لم يثبت مرساته بعد، ولا زالت للقوى الغربية والأمريكية تحديداً قدرة على التدخل والتلاعب عبر أدواتها أكثر من تلك الدول الأقرب كأمريكا اللاتينية، فصعود «اليمين» في البرازيل كان مصحوباً بدعمٍ أمريكي، عبر آليات الحروب الهجينة والثورات الملونة وبمختلف الأدوات والوسائل الإعلامية، ووسائل التواصل الاجتماعي والمنظمات «غير الحكومية» والعمل على إفساد الحكومة أكثر وغيرها، طيلة السنين الماضية، للتلاعب بآراء الشارع البرازيلي وتوجيهه وصولاً لهذه النتائج الانتخابية بفوز بولسونارو مما يثبت تبعية البلاد لها أكثر، وأحد مفاصل التأثير في الحالة البرازيلية التي دفعت بها التدخلات الخارجية كان حجم ووزن ما سُمّي بـ «الطبقة المتوسطة» في أمريكا اللاتينية حسبما ورد في أحد التحليلات، لكن هذه «الطبقة الوسطى» تعني تحديداً البرجوازية الصغيرة التي ازدادت في العقدين الماضيين، فبالنسبة لـ«لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية» هنالك نحو 70 مليون خرجوا من الفقر بين 2002 و2014، لكن ضمن السياسات الليبرالية وظروف الفساد، 30 منهم في البرازيل وحدها، أي: أن هذه «الطبقة الوسطى» تضاعفت من نسبة 18 إلى 37 بالمئة، وطبيعة هذه الشريحة المتقلقلة عموماً تدفعها للميول إلى سياسات محافظة تضمن بها استقرارها.
برنامج الأغنياء
بولسونارو، الرئيس البرازيلي الجديد، يسعى حسبما أشار طيلة حملته الانتخابية إلى جملة من التغييرات في سياسة البلاد، وبالأخص منها العلاقات الخارجية للبرازيل، ليتقارب مع واشنطن أكثر، ويهدد بالانسحاب من مجموعة «بريكس»، وصولاً إلى إعلانه عن نيته نقل سفارة البرازيل من تل أبيب إلى القدس، والعمل مع واشنطن للضغط على فنزويلا، فحسبما قال مايك بومبيو لبوسونارو أثناء اجتماع لهم «إن الوضع في فنزويلا هو أولوية»، كل هذا في سياق تحالفاته مع مثلائهِ اليمينيين دولياً، وعلى الصعيد الاقتصادي، يسعى إلى خفض الضرائب عن الشركات الخاصة والدفع للمزيد من الخصخصة للشركات والمؤسسات وغيرها، والذي يفضي بالمحصلة إلى خفض مستوى المعيشة على الصعيد الاجتماعي لمصلحة البرجوازية البرازيلية والرأسمالية عموماً.
تشابه واحد فقط
يشبه الكثيرون بولسونارو بترامب، واقعين تحت تأثير البروباغندا الإعلامية التي تُقارب شكلياً بين الرئيسين، من حيث تصريحاتهم العنصرية مثلاً، إلّا أن المضمون مُختلف تماماً، فكما أنه لا يمكن تشبيه البرازيل بالولايات المتحدة، فالفارق ذاته يوجد بين الرئيسين، فترامب مثلاً يسعى إلى حماية بلاده من عصف الأزمة الرأسمالية والخروج منها بأقل الخسائر من خلال محاولة تعزيز الإنتاج الحقيقي في الداخل، بينما بولسونارو سوف يجعل من البرازيل سوقاً مفتوحاً «ليبرالية» يحصل من خلالها «المحافظون» والبرجوازيون على وزن وثروة من ريعها للخارج عبر سياسات الخصخصة تلك، وما الشكل «المتطرف اليميني والعسكري» لبولسونارو إلّا لفرض هذه المعادلة الجديدة بالقوة، لأن الشكل القديم الناعم بين «اليسار» الوهمي السابق والفساد الحكومي لم يعد يجدي من جهة، ومن جهة أخرى الأزمة تزداد اشتداداً مما يدفع الأمريكيين لصنع منابع أكثر سرعةً بالنهب، إلّا أنه هنالك تشابه واحد بينهم وهو مدى احتمالية بولسونارو بإتمام فترة رئاسته كاملةً؟ فبرنامجه السياسي بجانبه الاقتصادي الاجتماعي فضلاً عن غيره لا يعبّر إلا عن مصلحة الأقلية الصغيرة المالكة اقتصادياً على حساب الشعب البرازيلي عموماً.
يمين مؤقت
إن صعود الأحزاب «اليمينية» اليوم، سواء أكان في البرازيل أم فرنسا أم ألمانيا وغيرها على حساب الأحزاب «اليسارية» لا يعني أكثر من خسارة هذه الأخيرة لجمهورها طيلة الفترات السابقة لأسباب موضوعية تتعلق بمدى يسارية هذه الأحزاب أساساً، ومدى اختراقها والظرف الدولي الداعم أو المناهض لها، ومستوى الفساد المتغلغل داخل الحكومات، وضمن واقع الحالة الاجتماعية المتأزمة في جميع الدول، فالشعوب تبحث عن بدائل لهذه الأحزاب التقليدية بطبيعة الحال لحل أزماتها، وبغياب أحزاب «يسارية» تكون حاملاً حقيقياً لإنجاز المهام الضرورية والتغييرات الحقيقية، يصعد «اليمينيون» مؤقتاً، ريثما تولد هذه الحركات الشعبية قادتها السياسيين بما يتلاءم مع المتطلبات والظروف الجديدة، والتي ولسخرية القدر يكون هؤلاء «اليمينيون» مُسرّعين لهذه العملية نظراً لسوء سياساتهم على الشعوب والطبقة العاملة تحديداً.
اليسار قيد الولادة
هذه التطورات على صعيد كل بلدٍ دولياً، تدفع بالمزيد من التفاؤل لأولئك المناضلين والثوريين حقاً على الرغم من شكلها السوداوي اليوم، فما يجري ليس أكثر من تطور طبيعي مُقنْون ومطلوب من مرحلة إلى أخرى في هذا الظرف وضمن الشروط الحالية ولا يمكن تجاوزه، بل السلبي يكمن في إعاقته، فالمرحلة الحالية هي تلك الفترة بين موجتين من الحراك الشعبي عموماً، المرحلة التي سوف تنتج أدوات وقيادات جديدة تعبّد وتمهد الطريق أمام الشعوب لموجتها الثانية وتفضي في نهاية الأمر إلى إنجاز التغييرات الجذرية التي تدفع بالبشرية للأمام، وهي تعني أكثر، موت تلك التيارات السياسية «اليسارية» الوهمية التي أُنشئت وامتدت أكثر بعد الحرب العالمية الثانية وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، و«اليمينية» التقليدية، نحو ولادة أحزاب «يسارية» جديدة وجذرية تمضي في نهاية الأمر إلى إنشاء اشتراكية القرن الواحد والعشرين.